نبين أولاً أن النفس البشرية واحدة في كل زمان ومكان مهما اختلفت الفروق الظاهرة وبالرغم من شذوذ الآحاد بالنقاوة النادرة أو النجاسة البالغة النادرة. وأردنا أن نفسر أثر المتقدمين في أقوال المتأخرين وإن نقول أن الشطط في وصف المفاتن وفي شرح الشكوك النفسية لم يأتنا من ناحية الإفرنج وحدهم بل جاءتنا به مؤلفات العرب ولا سيما عندما أدخلت الطباعة وطبعت المخطوطات العربية القديمة والحديثة. على أن النفس الإنسانية يا سيدي الأستاذ ينبوع يفيض بكل ذلك من غير حاجة إلى كتب العرب أو كتب الأوربيين؟ وإن شاء الأستاذ فليرتد أماكن الناس الذين لم يتأثروا كثيراً بكتب العرب ولا بكتب الإفرنج وليسمع هواجس نفوسهم.
على أن في ذكر الأستاذ التجاء عمر بن الخطاب إلى النفي ما يدل على أن النفوس في عهد عمر رضي الله عنه لم تكن تمتنع عن التعلق بمفاتن الحسن ومحاسن الحياة، ولعل الأستاذ قد أذكرته التجاء عمر إلى النفي قصة سماع عمر غناء التي تغنت بهذا البيت:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها ... أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
فنفى عمر رضي الله عنه نصراً هذا. ولو رجع الأستاذ إلى ما قبل سيدنا عمر وتدبر حكمة الآية الكريمة التي تنهي الناس عن قرب الصلاة وهم سكارى لرأى عبرة تسلك النفوس البشرية في كل عصر في صعيد واحد بالرغم من تفاوتها. وأستحلف الأستاذ أن يحكم على تلذذ كعب بن زهير بذكره كبر عجز حبيبته في قصيدة (بانت سعاد) عندما قال (هيفاء مقبلة عجزاء مدبرة) وتلذذه بذكر كبر العجز في قصيدة يمدح بها النبي صلى الله عليه وسلم وهي قصيدة يتبرك بها بعض الناس، وبعضهم يتخذها حجاباً وتميمة بما فيها من التلذذ بذكر كبر العجز من غير فطنة إلى ما فيها. ومع ذلك قد مر النبي صل الله عليه وسلم بغزل كعب هذا مر الكرام بما كان يدعو إليه من العقيدة السمحة وتألف النفوس ومعرفته ضعف النفس وقصورها. فماذا كان يصنع الأستاذ الغمراوي لو أن شاعراً مدحه بقصيدة تغزل في أولها وتلذذ في غزله بذكر كبر عجز حبيبته؟ هل كن يتغاضى كما تغاضى النبي صلى الله عليه وسلم الله عليه وسلم أم كان ينفيه كما أراد أن ينفي عمر بن أبي ربيعه؟ وماذا كان يقول الأستاذ لو أن شاعراً إنجليزيا مدح ملك إنجلترا ومقام الملك دون مقام النبوة فقال الشاعر في قصيدته (إن حبيبتي يا كنج جورج لها عجز كبير)؟ أننا يا