من هؤلاء نحو عشرة ملايين يقرءون ويكتبون، فكم من هؤلاء يقرأ ابن الرومي والمتنبي والمعري والشريف وأبا تمام والبحتري وأبا نواس وغيرهم وغيرهم. . .؟ لا أكثر من بضعة آلاف قليلة. وجل هؤلاء يقتنون الكتب كما يقتنون التحف ويرصونها للزينة لا للاطلاع، ويتخذونها كما يتخذون السجاجيد والزهريات والصور وما إلى ذلك. والذين يفتحونها، منهم من يفعل ذلك للتسلي وتزجية الفراغ، والأقلون هم اللذين يعنون بالدرس والتحصيل؛ فهم في هذا العالم العربي الطويل العريض لا يعدون بضع مئات. فكأن خلود الأديب في إخلاد الناس ليس معناه أن السواد الأعظم منهم يعبئون به، بل معناه أن قلة ضئيلة هي التي يرجع إليها الفضل في بقاء اسم الأديب مذكوراً وآثاره منشورة
وهذا هو الخلود - ثلاثة أو أربعة أو أكثر من المجانين بشيء لا يزالون يقرعون الطبول باسم من الأسماء ويلحون به على الناس حتى يوقظوا النفوس لهذا الاسم ويوحوا إليها أن صاحبه جدير بالذكر وأن آثاره تستحق الاقتناء
ومن كان لا يصدق فليسأل نفسه: هل شهرة المتنبي مثلاً ترجع إلى تعليق رجل الشارع به. . . أليس الواقع أنه لو كانت شهرته رهناً بعناية الرجل العادي به لما طال عمرها أكثر من بضعة أيام - أسبوع على الأكثر. . . والمتنبي مه ذلك أشهر شعراء العرب، وحكمه لا تزال تدور بها الألسنة وتجري بها الأقلام، وديوانه يعاد طبعه كل بضعة أعوام مرة. ولكن كم نسخة تطبع من ديوانه في كل مرة؟ ألفان. . ثلاثة آلاف. . أربعة آلاف. . في عالم عربي يبلغ عدد القراء فيه عشرة ملايين أو خمسة على الأقل إذا جادلت. . . فما ظنك بحظ الذين هم أقل منه شهرة. .؟
والمدارس والجامعات تخرج في كل عام - في هذا العالم العربي - عشرات من الآلاف تلقوا دروساً في الأدب، وعرفوا أسماء الأدباء وألموا إلى حد ما بخصائص فنونهم ومميزات آثارهم، ومع ذلك تبقى ثلاثة آلاف نسخة من ديوان شاعر كالمتنبي محتاجة إلى أكثر من عشرات سنوات لتنفد. . . ولولا أن في كل جيل بضعة مجانين بالأدب لا يكفون عن الصياح بأن المتنبي شاعر فحل وأنه رجل عظيم، وأنه جدير بأن يقرأ ويدرس لبقيت هذه الآلاف القليلة من نسخ ديوانه مكدسة في مخازنها لا تجد لها طالباً
هؤلاء المجانين القليلون هم الذين ينقذون الشهرات من الفناء ويبقونها حية جيلاً بعد جيل.