فإن لكل جيل مجانينه الذين لا يزالون يبحثون وينقبون حتى يعثروا على عظيم مقبور كما يفعل المنقبون عن آثار المدنيات التي عفى عليها الزمن - لا يعروهم فتور ولا يدركهم ونى؛ حتى ليكاد المرء يعتقد أنه لا خوف من بقاء عظيم مدفوناً وحقه مهضوماً وفضله مطوياً أو مجحوداً. وقد لا يكون في هذا ما يعزى العظيم، ولعله شبيه بمنح القتيل في ساحة الحرب وساما على سبيل الاعتراف ببسالته، والشهادة بحسن بلائه، ولكنه على كل حال يجدي بأن يمنع اليأس من إنصاف الدنيا ولو بعد الأوان.
وحتى حين يفوز المرء في حياته بالشهرة التي يستحقها - أو لا يستحقها كلها - عند الجماهير يكون الفضل في بقاء هذه الشهرة للقلة المتحمسة، لا للكثرة التي لا تلبث أن تذهل عما أحبت ومن أحبت. وبهذا وحده تظل الجماهير تذكر وهي لا تفعل ذلك عن اقتناع أو فهم وإدراك صحيح لاستيجاب الشهرة، بل لأن هؤلاء المجانين الذين لا يخلو منهم زمن يقولون لها عشرة آلاف مرة أو عشرين ألف مرة إن فلاناً عظيم وحقيق بالذكر والتخليد، فتصدق وهي لا فاهمة ولا مدركة. ويقصد آحاد من هذه الجماهير التي فعل الإيحاء في نفوسها فعله - إلى المكاتب ويشترون ديوان المتنبي ويضعونه على الرف ويفركون أيديهم وهم فرحون باقتناء هذه التحفة التي آمنوا بأنها خالدة وأنها أبقى على الزمن من الزمن
وتسأل: لماذا يجن هؤلاء الأقلون بخارجيات السلف، فلا تجد جواباً يقنع العقل وتسكن إليه النفس. ولن تعدم من يقول لك إن سر هذا الجنون هو ما في هذه الآثار من الحق والحكمة والفكاهة والجمال، ولكن هذه لا تزال ألفاظاً تتطلب معانيها التحديد، ومن العبث أن تلعب لي بها وتصنع لي منها توافيق وتباديل، وتزعم أن هذه هي المعاني التي تفهم من هذه الألفاظ التي نشعر بدوران معانيها في النفس وتعيننا العبارة الدقيقة عنها. . . أو هذا على الأقل حالي أنا معها. وإذا كان شاعر مثل (كيتس) يستطيع أن يقنع نفسه بأن الجمال هو الحق، وأن الحق هو الجمال، ولا يحتاج بعد ذلك إلى كلام أو شرح أو بيان، فإني أنا مع الأسف لا يكفيني هذا وإن كنت آنس من نفسي حب كلمته هذه والسرور بها سروراً ليس مرجعه إلى الفهم.