وجاءت الفتنة المهدية في السودان فأرادت إنجلترا أن تخليه مصر لتعيد فتحه من جديد؛ وأبى شريف إلا أن يضيف إلى محامده ومآثره في هذا الوادي مفخرة سوف يقترن بها اسمه الكريم على مدى الأيام، فرفض ذلك الاقتراح وقال كلمته التاريخية التي تنطوي على كثير من المعاني:(إذا تركنا السودان فالسودان لا يتركنا)
ولكن انجلترة التي تعتزم الجلاء عن مصر تصرح على لسان معتمدها أنه على الوزراء والموظفين أن يعملوا (بالنصائح) التي تسديها حكومة جلالة الملكة وإلا فعليهم اعتزال مناصبهم! ولا يتردد الخديو أن يقبل حتى هذا التصريح!
وعرف شريف من المقصود بهذا التصريح، وهيهات أن تسير الوطنية مع نوايا الاحتلال والعبودية، لذلك لم يكن بد أن يختم شريف حياته السياسية بالاستقالة من وزارته الرابعة والأخيرة بعد أن قضى فيها عامين. . . وكانت هذه كبرى استقالاته إذ كانت تنطق بشهامته وصراحته؛ وتفيض برجولته فهو لا يستقيل (لأسباب صحية) ولكنه يحتج على محاولة سلخ السودان وعلى هذا التصريح الذي يتنافى مع الدستور ويتنافى مع الاستقلال، وكان ذلك عام ١٧٨٤
وفي عام ١٨٨٧ يموت هذا الرجل العظيم وهو على سفر في النمسا فتتلقى مصر جثمانه وتمشي خلف نعشه الجموع الهائلة التي لم تر مثلها البلاد من قبله، فهذه أول جنازة شعبية في تاريخها الحديث. هذه هي السابقة التي سترى مكبرة عظيمة يوم تضيق القاهرة بالمنتخبين من أبناء مصر يشيعون جثمان رئيس الثورة الثانية زعيم الوفد الأول، ذلك الذي كانت حياة شريف أيضاً وجهاده القومي سابقة قومية لحياته وجهاده. . . رحم الله العظيمين وجزاهما عن وطنهما خير ما يجزى به الشهداء والمجاهدون