وتمضي الثورة في طريقها، والدولتان في طريقهما؛ ثم تنفرد إنجلترا فتغافل فرنسا كي تلتهم الفريسة وحدها، وتضرب أساطيلها قلاع الإسكندرية مرتكبة بذلك أشنع ما عرف في تاريخ الحروب من عدوان وغدر، ويدفع عرابي مصر لتدافع عن نفسها فيكون جهاد فيه قوة وحماسة، ولكنه لا يخلو مما منى به الشرق في عصوره الأخيرة من ختل وخيانة، فتفشل الثورة ويعود الخديو من الإسكندرية ليجد في طريقه إلى قصره فرقة من الجيش البريطاني تصدح موسيقاها بالسلام الملكي الإنجليزي. . .! وتقع على هذا المنظر عينا شريف وقد عاد معه، فلا يملك - على ما يقول الرواة - ذلك الرجل الكبير دمعه فيجهش كما الطفل! ألا ما أغزر ما تفيض به الدموع من المعاني!
بكى شريف وحق له أن يبكي فهذه جهوده تذهب عبثاً، بل هذه مصر تصبح وهي لا تملك من أمرها شيئاً؛ وما كان شريف غداة طلب من المجلس الأناة والاعتدال لعمري خواراً ولا مارقاً؛ بل لقد كان يومئذ يقف أجمل وأعظم موقف في حياته، موقف الشجاعة التي لا تتملق النواب ولا تخشى في الحق ما يعلنه الرأي العام، والتي لا يغرها مديح أو يستهويها الحرص على إطراء الجمهور ورضاه، وموقف الكياسة في معالجة الأمور، والنظر في عواقبها؛ وإنا لن نجد في الحق موقفاً يوضح أخلاق شريف ويكشف عن طباعه خيراً من هذا الموقف الجليل. والزعيم الحق هو الذي يهم بما يراه حقاً ويصر عليه مهما لاقى من عنت، وإلا فعلى أي أساس دون ذلك تقوم زعامته؟
ودعى شريف بعد الاحتلال لتأليف الوزارة فلم يحجم، ودخل رياض في وزارته، وما كان قبوله الحكم في تلك الظروف عن رغبة منه في المنصب، فهو يرى ما يطلبه المنصب الآن من جهد شاق وصبر طويل، وإنما كان موقفه موقف ذي النجدة الذي لا يتسرب إلى عزمه وهن ما دامت في جسده حياة. . . كان موقفه موقف المخلص الذي يسيره إخلاصه ويملي عليه ما يجب أن يعمله حتى ما يستطيع أن يفلت أو يتردد إن فكر في ذلك أو مال إليه وكان طبيعياً أن يجري في وزارته على خطته قبل الاحتلال، أو على الأقل كان طبيعياً أن يقبل تأليفها على هذا الأساس فإن ذلك وحده هو الذي استطاعه، ذلك أنه ما لبث أن رأى الإنجليز هم كل شيء على رغم ما كانوا يذيعونه من وعود بالجلاء في مشرق الأرض ومغربها