إن كثرة إنتاج الفنان لمما يساعد دون نزاع على درس طابعه واستخلاصه من خلال هذا الإنتاج، ولكنها لن تكون سبباً في تعظيمه أو تخليده؛ إذ أن من بين أساطين التصوير من كان نسبياً قليل الإنتاج ومع هذا كان عظيماً، على حين رأينا غيره ممن كثرت لوحاتهم وبقيت آثارهم لم يكن لهم نصيب في الخلود في عالم الفن، نظراً لضآلة طابعهم المميز أو انعدامه.
وهاهو ذا المثل بين أيدينا، فالمصور بوليجنوت مع قلة ما أنتجه وضآلة ما وصل إلى أيدينا من خلقه، كان فناً بارزاً لوضوح طابعه الدال على سمو نفسيته وقوة تعبيره ودقة ملاحظته.
ويتلخص هذا الطابع في أنه أول من أبتدع التصوير التذكاري الذي سار فيه متجهاً نحو المثل الأعلى؛ فدل في جلاء على النضوج العقلي. وإلى جانب ذلك يعد بوليجنوت أستاذاً في التصوير الخطي أي المكون من خطوط تحديدية خصصها لتصوير موضوعات أخلاقية أظهر فيها ناحية الجمال المثلى، فكان كما أطلق عليه علماء الفن (مصور الأخلاق) ويعنون بذلك الانتماء إلى الاتجاه الفلسفي الذي يعني بالتفرقة بين عادلات الإنسان وبين ميوله لتحقيق فكرة الخير أو العمل مندفعاً نحو الشر.
على أن هذا الطابع وهذا الاتجاه ليس دليلاً على النضوج الفني الذي لم يصل إلى نهايته في التصوير، ولذلك، كما قلنا، كانت معظم أعماله تصويراً خطياً لونها بألوان معدودة دون ظل ولا نور؛ فبدت أشبه شيء بصفوف بعضها وراء بعض على أرضية ذات مستوى واحد. وكان غالباً ما يرسم - في ركن من الصورة - شجرة أو بيتاً قاصداً بذلك تمييز مصوراته متخذاً معظم مادته الإنشائية من سير الأبطال.
وأشهر ما تبقى من إنتاجه صورتان حائطيتان في ردهة الاجتماع بمدينة دلفي، أولاهما مثلث (تخريب تروادة ورحيل الإغريق عنها). وثانيهما زيارة أوديسوس - بطل تروادة - للدنيا السفلى.
كما أن له صورة حائطية مثلت (تشاور الإخائيين) في ردهة السوق. وغيرها (الديوسكوريين يخطفون بنات لويسبس) في معبد ديوسكور أو معبد أبناء زويس من معشوقته إليدا التي كان - كما تذكر القصة الإغريقية - يزورها وهو في هيئة البجعة.