للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

واحدة يطلع عليها القارئ في سلسلة الحركة القومية بقلم رجل يجمع إلى صفاته كمؤرخ صفة أخرى وهي صفة المؤمن بتلك الحركة، وهذه مزية ضرورية لمؤرخ أي فكرة؛ إذ أن عبد الرحمن بك رجل يؤهله طول بلائه فيها لأن يفهمها بروحه ومزاجه فضلاً عن فهمه إياها كمؤرخ وكرجل يدرك المرامي السياسية عن طريق إلمامه بالقانون.

احتل نابليون مصر، وكانت تابعة لتركيا، وكانت إنجلترا منافسة له تسعى لإخراجه منها. وكانت حجتها في ذلك أن في هذا الاحتلال اعتداء على حقوق الدولة العثمانية التي لم يكن في حالة حرب ضدها بل كان متعهداً بسلامتها بمقتضى المعاهدات. فأخذت تحرض تركيا على التمسك بحقوقها، وتحرض المصريين على التمسك بعلاقتهم بها ما دام الاحتلال الفرنسي قائماً. وكان نابليون يسعى جهده لحمل تركيا على الرضا عن احتلاله لمصر نظير مزايا عظيمة في البلقان، كما سعى بوسائل شتى لحمل الزعماء المصريين على قبول الانفصال عن تركيا فبذل في سبيل ذلك جهوداً عظيمة، وأدى للشعب خدمات جليلة، ولكنه لم يفلح مع تركيا ولا مع مصر، ولذلك تم للمصريين ما أرادوا من عدم تمكن النير الأجنبي من أن يقوم على رضاهم بسند شرعي. ولو أنهم خدعوا بما أغراهم به نابليون باسم الانفصال عن تركيا لخلا الجو أمام احتلاله وهو الإهدار الحقيقي للاستقلال ولكانت مصر إلى الآن مستعمرة فرنسية. . .

أثبت التاريخ بعد ذلك أن مصر لم تكن بهذا السلاح السلبي تقصد التبعية لتركيا بدليل أنها ما كادت تتخلص من الاحتلال الفرنسي حتى أخذت تعالج مشكلة استقلالها مع تركيا وجهاً لوجه، فوضعت محمد علي على رأسها وحارت تحت قيادته المتبوع الأعظم وهزمت جيوشه؛ وذلك بفضل استقلالها الداخلي الذي مكنها من أسباب القوة القومية، وهذا لعدم توفر الركن الأساسي للتبعية الفعلية لتركيا وهو وجود جيش احتلال تركي في مصر.

لم يقف الجيش المصري الظافر على تركيا إلا تدخل دول أوربا التي لا تأخذ الواحدة منهن على المصريين تمسكهم بتركيا إلا عندما يكون هذا التمسك مقصوداً به التخلص منها. أما إذا كان مقصوداً به التخلص من دولة منافسة لها فإنه يصبح عندئذ أمراً منطقياً تمليه الوطنية الحقة ولا تعصب فيه للدين ولا للخلافة

ولم يقف الاستقلال الذي عملت له مصر في ميدان القتال عند الحد الذي رسمته معاهدة

<<  <  ج:
ص:  >  >>