للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

(يا عماه، والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله أو أهلك دونه ما تركته)

فتأثر أبو طالب وقال له:

(اذهب يا ابن أخي فقل ما أحببت، فوالله لا أسلمك لشيء أبداً)

ولما ضرب الإخفاق على هذه المحاولات السلمية اشتدت موجدة قريش وتضاعف احتدامهم وأيقنوا أن انتصار ذلك الدين الجديد معناه القضاء على دين بلادهم وعلى ما يمتازون به بين العرب من السيادة القومية، ثم هم فوق ذلك يخسرون الثروة والجاه اللذين يستأثرون بهما عن طريق سدانة الكعبة الشريفة. أما محمد نفسه فقد كان برغم ما تعرض له دواماً من بذاءة القوم وسفاهتهم في ذمة أبي طالب وذمار بني هاشم الذين منعوه وحالوا دون أي اعتداء على حياته؛ يحفزهم على هذا ما جبل عليه العرب من قوة العصبية، مع أنهم لم ينعطفوا نحو الآراء التي دعا إليها. أما الفقراء والرقيق الذين لا ملاذ لهم ولا جوار فلم يجدوا مخرجاً من طائلة الاضطهاد الغليظ، فكانوا يحبسون ويعذبون كي يفارقوا عقيدتهم. وكان أبو بكر يشتريهم ليخلصهم من العذاب، فقد اشترى بلالاً ذلك العبد الأفريقي الذي كان محمد يطلق عليه (أول ثمار الحبشة) والذي لقي من ضروب الامتهان ما لم يلقه أحد، فكان يلقى في الرمضاء وقت الظهيرة وقد حميت الشمس ثم توضع على صدره صخرة ثقيلة ويقال له: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وترجع إلى عبادة الأوثان، وبلال لا يجيب على ذلك إلا بقوله:

(أحدٌ أحدٌ). وهلك شخصان متأثرين بما أصابهما من الاضطهاد وما ألم بهما من نوازله القاسية. ولما أن رأى محمد ما نزل بالمسلمين من الأذى مع عدم قدرته على تخليصهم مما هم فيه نصح لهم بالهجرة إلى الحبشة، فخرج في السنة الخامسة من النبوة (٦١٥ م) إلى الحبشة أحد عشر رجلاً وأربع نساء، وهناك رحب بهم ملكها النصراني. وكان فيمن هاجروا مصعب بن عمير، وفي سيرته يتمثل أقصى ما أصاب المؤمنين من بلاء ومحنة، فقد أبغضه من أحبهم ومن كانوا من قبل لا تقصر قلوبهم عن الولوع به. أسلم بعد أن تفهم تعاليم الدين الجديد في بيت الأرقم، ولكنه أخفى إسلامه لما كان له من مقام كبير في قومه، ولما كان له من حب جم في قلب أمه، وأمه لا تقل عن قومها كراهية للدين الجديد. ثم ما

<<  <  ج:
ص:  >  >>