وسكتت المرأة وعاد السكون يغمر الدنيا. . . ومضت فترة طويلة لم يسمع خلالها نبأة، ولكن النور الضعيف لبث منبعثاً من شقوق الخيمة. . . ثم ظهر القمر يطل على الدنيا بوجه شاحب كأنه وجه عليل مدنف، أو ميت محتضر، وأبدت أشعته الكليلة ما كان الليل قد ستره، فبان من خلالها ذلك المشهد الموحش المرعب وقد زاده شحوبها وحشة وهولاً. . . فخرجت المرأة من الخيمة وجلست على مقربة منها تتأمل وتفكر، وكانت في الثلاثين من عمرها، ذات عينين زرقاوين واسعتين، وشعر كستنائي اللون، وبشرة بيضاء ناعمة، وكانت جميلة جذابة، ولكن في أنفها طولاً ينأى به عن الجمال. . .
كانت تنظر إلى تلك الخيام وقد انتثرت السفوح والصخور، وتمدّ البصر إلى جيش أعدائها المسلمين وقد احتل القلعات العالية ليحمي أسوار المدينة ويدرأ عنها، وتفكر في هذه الحياة المروعّة التي تحياها، فتمتلئ نفسها حسرة على حياتها الوادعة في ماضيات لياليها، يوم كانت في قريتها المتوارية في حجر صخرة من صخور (الألب) لا تعرف إلا هذا العالم الصغير الذي يحدّه شرقاً منعطف الوادي، ويحده من الغرب المضيق الصخري الضيق، ومن الشمال والجنوب غابة الصنوبر الفتانة وهي تحتضن القرية وتنبسط على السفح الجميل، وذلك السور الصخري يطيف بذلك كله ويعانقه ويدفع عنه الأذى. لقد كانت ترى من يوغل في الوادي، ويحتجب عن القرية في ملتفاته ومنعطفاته بطلاً من الأبطال؛ أما هذه الجلاميد، وهذه الذرى المشرفة على القرية، فلم تفكر يوماً من الأيام في البحث عما وراءها، ولم ترتق بفكرها إلى أعاليها لتفكر ماذا فيها. . . فكيف طوحت بها الأقدار فألقت بها في هذا العالم النائي الغريب الذي لم تكن تدري به أو تعلم له وجوداً! وكيف كتبت عليها أن تفقد زوجها الحبيب، وأن تعيش وسط الذعر والموت؟
واشتد بها الضيق، وزاد بها الحنين إلى ماضيها الهانئ، وصور لها وهم القرية فرأتها أمامها، وشاهدت الغابة التي يقطعها فتيان القرية وفتياتها كل صباح ومساء، ليبلغوا العين فيزدحموا عليها ليرتووا من مائها العذب النمير، ويذهبوا ظمأ أجسامهم، وليرتووا من العيون الأخرى فيطفئوا ظمأ نفوسهم إلى الحبّ. . . فذكرت كيف عرفت فتاها الحبيب، وقد رأته أول مرة على باب داره تلقاء الغابة، فأحست كأن عينيه قد اخترقتا شغاف قلبها. .