ورأته بعد ذلك في الغابة ولكنها لم تجرؤ أن تكاشفه بحبها. . . وهل تجرؤ على مثل ذلك فتاة؟ حتى كان ذلك اليوم السعيد الذي يمرّ في موكب حياتها بهيّاً مشرقاً، على حين تمر أيامها الأخرى شاحبات غائمات. . . فجلست معه تحت تلك الشجرة المنعزلة أحلى مجلس في حياتها، إذ قد أعلن فيه مولد الحب بقبلة مسكرة لا تزال تحس طعمها في فيها، وأثرها على شفتيها. . .
لقد كانت سعيدة في هذه القرية، تعيش في جنة الغرام، لا تعرف إلا قلبها وربها، فهي تصبح فتمشي إلى الكنيسة لأنها لم تعرف لله بيتاً خيراً منها، فتتوجه فيها إلى الله بالصلاة التي حفظتها. . . وتمشي فتطوف في الغابة يدها في يد الزوج الحبيب، حتى تبلغ كنيسة حبها تحت الشجرة المقدسة، فتؤدي فيها صلاة الحب على دين الغرام، قبلة فيها (كما قال ابن أبي ربيعة) خمر وعسل! ذ
كانت القرية كلها في أمن ودعة، حتى نزل بها ذلك الرجل، فنزل بها البلاء وهبطت المصائب، وتعكرت حياتها الصافية كأنما هي بركة ساكنة ألقيت فيها صخرة من الجبل. . . كانت القرية في ذلك الصباح مستلقية في فراش أمنها ترشف بقية أحلام الليل اللذة، تنهض مع الشمس فتعمل على تحقيقها، وكانت الغابة تصلي وقد شمرت أشجار الصنوبر للعبادة عن سوقها، ووقفت بين يدي باريها صفوفاً للصلاة، وقامت الطير تتلو صلواتها على منابر الأغصان، ووقف الورد والزنبق في الحدائق خاشعاً مصغياً، وسبّحت السواقي بحمد ربها فكان لتسبيحها وسوسة دائمة جميلة، وأصاخ الجبلان وصمت الوادي. . . فلم يفسد هذه الصلاة الخاشعة في معبد الطبيعة إلا صرخة تدوي في الوادي، يحملها صوت مبحوح، كأنه صوت جريح ينضح صراخه بدمه، فيسمع الصوت أحمر قانياً يقطر دماً. وتوالت الصيحات الحمر، وازدادت شدة وهولاً، فحملت الذعر إلى بيوت القرية وأرباضها وأوكارها وأبدلت بصباحها الباسم صباحاً كالح الوجه مربدّاً قبيحاً، وذهب القوم يستقرون الصوت ويتقصونه، فرأوا قساً من القسوس مكشوف الرأس، منفوش الشعر، قد لبس المسوح، وطفق يلقي عليهم باللاتينية تارة وبالفرنسية تارة أخرى، ما يفهمون ومالا يفهمون؛ وكان يمر في كلامه (الخطر الداهم) و (المسيح) ثم عرض عليهم صورة (القبر المقدس. . .) الذي ينزل عليه النور، والذي يحجون إليه ويتبركون به. . . وقد قام فارس