للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الحارث يحدثه حديثه وحديث الشيطان في وقت معاً. . . ثم انطلقا معاً صوب المدينة. . .

وجلس أبو جهل والحارث إلى أخيهما عياش يترفقان معه في الحديث، ويدخلان إلى قلبه بفنون من الكلام، فاستعصى عليهما؛ غير أن أبا جهل لم يكن رجلاً تزَعه الكلمات عن غايته أو تثنيه عن قصده، فيرتد خائباً مخذولاً؛ فراح يقلب الرأي في خاطره، ويتلمس الحلية من شيطانه، ثم. . . ثم قال: (يا أخي، إن أمك قد نذرت ألا يمس رأسها مشط حتى تراك، ولا تستظل من شمس حتى تراك!) ورأى عمر بعض ما بدى على عياش من رقة واستخذاء حين سمع ذكر أمه، وخيل إليه أن الرجل يلقي إلى أخويه السَّلم فيذهب ضحية المكر والخديعة، فقال: (يا عيَّاش، إنه والله إن يريدك القوم إلا ليفتنوك عن دينك، فاحذرهم، فوالله لو قد آذى أمك القمل لامتشطت، ولو قد اشتد عليها حر مكة لاستظلت) ولكن الشيطان كان قد عدا على الرجل فاستلبه الثبات، فقال: (أبِرُّ قسم أمي، ولي هنالك مال فآخذه) فقال عمر: (والله إنك لتعلم أني لمنّ أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب معهما) غير أن الرجل كان قد وقع في حبالة أخويه حين صوّر له شيطانه أمه في الهاجرة شعثاء غبراء تندب ولدها وتؤذي نفسها، فأبى إلا أن يصحب أخويه، وعمر به ضنين. وعجز عمر عن أن يدفع الرجل عن الهاوية التي يوشك أن يتردى فيها، فقال له وهو يهم بالرحلة: (يا عياش، أما إذ قد فعلت ما فعلت فخذ ناقتي هذه، فإنها ناقة نجيبة ذلول فالزم ظهرها، فإن رَابَك من القوم رَيْبٌ فانجُ عليها) ثم. . . ثم وقف ينظر إلى الاخوة الثلاثة حتى غَيَّبتهم البيداء في أحشائها فرجع وفي نفسه الأسى والحزن، وقلبه يحدثه حديثاً. . .

وانطلق عياش بين أخويه، وأبو جهل يختلس النظرات - بين الحين والحين - إلى ناقة عمر وهي تخد بأخيه وخداً سريعاً، وقد حمل لها كرهاً حين لم يستطع أن يحول بين عياش وبينها، وحين عجز عن أن ينالها بسوء، ثم لمعت في رأسه خاطرة ابتسم لها، وأشار إلى أخيه الحارث ينذره بأمر، ثم راح إلى عيَّاش يحدثه: (والله يا أخي لقد استغلظتُ بعيري هذا، أفلا تعقبني على ناقتك هذه؟) فقال عياّش وقد أمن مكر أخيه: (بلى، يا أخي!) فأناخ وأناخا ليتحوّل إليها، فلما اسْتَوَوْا بالأرض عَدَوَا عليه فأوثقاه وربطاه ثم دخلا به مكة نهاراً وعلى وجهيهما سمات الفرح والسرور يباهيان أهل مكة بما كان، ويقولان: (يا أهل مكة، هكذا فافعلوا بسفهائكم كما فعلنا بسفيهنا هذا) ثم فتناه فافتتن

<<  <  ج:
ص:  >  >>