للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أفحقاً قد افتتن الرجل وارتد عن دين الله واطمأن إلى الكفر، وسكن إلى الجاهلية، واستحب العمى، بعد إذ ذاق حلاوة الإيمان، ووجد في قلبه برد الإسلام، وعاش زماناً بين اخوة من المؤمنين يستروح منهم نسمات الحب والإخلاص وهو في الحبشة حيناً وفي المدينة حيناً، لا يستشعر مرارة الفراق ولا لذع الغربة؟ إن صُبابة من الإيمان ما تزال تتوثب في قلبه، غير أنه خشي أن ينطلق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستغفره فلا يتقبّل منه، وهو كان يسمع صحابته يقولون: (ما الله بقابلٍ ممن افتتن صرفاً ولا عدلاً ولا توبة. قوم عرفوا الله ثم رجعوا إلى الكفر كبلاء أصابهم) فيرتد على عقبيه وفي نفسه الحسرة والشجن. . . ثم لبث في قومه سنين

وترامى إلى الرجل أن النبي صلى الله عليه وسلم هاجر من مكة في رفقة صديقه أبي بكر فنازعته نفسه إليه تدفعه أن يلحق به ولكن. . .

وتصرمت أعوام وعَيّاش في حيرة من أمره، ما يستطيع أن ينزل عند رأي أخويه فيغتمر في الكفر فيجحد ما أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم، وما هو بقادر على أن يطير إلى المدينة، وحديث رفاقه ما يبرح يدوّي في أذنيه، وعمر هناك في المدينة أسيف على أن يرتد رفيقه عن دينه، وعلى أن يتلمس إليه الطريق عَلَّه يجد الوسيلة إلى قلبه فلا يستطيعه

وأنزل الله تعالى (يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً، إنه هو الغفور الرحيم) ووجد عمر فيما أنزل الله متنفساً فانطلق إلى قرطاس يسطّر عليه الآيات الكريمة ويبعث بها إلى صديقه. . .

وأقبلت الرسالة تنفح من عبيرها على قلب الرجل فاضطرب لها ولمّا يفضّ مغاليقها؛ وتاقت نفسه إلى أن يطمئن إليها ساعة من زمان يحدثها وتحدثه، غير أنه لم يكن ليجد الخلوة. . . وعلى حين غفلة من أهله دلف إلى ذي طوًى بأسفل مكة ينشر الرسالة على عينيه وقد أمن الرقيب، ثم راح يصعّد بها فيه ويصوّب فلا يفهم منها حرفاً، وبدت الكلمات أمامهُ عقداً أعيت عليه. ماذا؟ لقد استغلق عليه الكلام العربي المبين وهو عربي في الصميم والذروة من العرب! فأخذ يقلّب الصحيفة بين يديه وقد سيطر عليه الحزن والأسى، ثم أُلقي في روعه أن حجاباً كثيفاً أسدل بينه وبين أن يفهم كلام لله لأنه نجَس، فأقبل على الله بقلب

<<  <  ج:
ص:  >  >>