في هذه الفصول أو الأقسام التاريخية، ولا أقول إن هذا المنهج كله من اختراعه فلقد سبق إليه، ولكنه آثره وهذب منه، وهذه الخطة نفسها اقتضت مؤلف - حياة محمد - أن يكون مستقصياً استقصاء الباحث فليس له اختيار ما يحب وترك ما لا يهوى، لأنه يعالج موضوعاً من عمل التاريخ، عليه أن يعرضه كما حدث دون أن يخلع عليه من نفسه إلا ما شاء الخيال التاريخي الذي يربط المفكك، ويصل المنقطع، ثم هذا النقد الذي يظهر في تفسير كثير من المسائل بمقياس إسلامي علمي بعد ما كانت أشبه بالسمعيات تصدق ولا تعلل. . . وفي مناقشته آراء المستشرقين الذين تجافوا فيما كتبوا عن روح الدين وطبيعته، وبعدوا عن عصر الرسالة وبيئتها فلم يوقفوا فيما يتصورون. وصاحب (حياة محمد) بعد ذلك مسلم حدب على الدين غيور، أشرب روح الإسلام، وألم بكثير من أسراره فظهرت عل كتابه أعراض الحمية، حمية من لا يسمح لأحد بغمز دينه أو النيل منه، وذلك كله في أسلوب منطقي واضح هو أسلوب العلماء. ولكن طه حسين سلك سبيلاً أخرى هي سبيل الأديب حقاً، فلم يشأ في الظاهر أن يتقيد بمنهج علمي، وإنما كان قصاصاً، ترك هذا العصر الذي نعيش فيه، وانتقل بخياله الخصب إلى الجاهلية وصدر الإسلام وعاش مع ناسهما يفهم بعقولهم، ويحس إحساسهم، ويأكل مما يأكلون منه، ويشرب مما يشربون؛ وبذلك استطاع - ما وسعه الجهد - أن يقص علينا الحوادث بروحها وفي جوهرها، وأن يفسر المسائل كما كانت تفسر حينذاك، فنقل إلينا هذا الماضي أو نقلنا إليه بحيلة لطيفة. وفن القصص لا يقتضي صاحبه استقصاء ولا نقداً علمًّيا دائماً، ولا تحقيقاً وتفنيداً، فآثر أهم الأمور التي يرى فيها روعة قصصية لأنها كانت رائعة إبان حدوثها أو فيما شعر وتخيل صاحب (على هامش السيرة). . . ثم تناولها واصفاً وحاكياً لم يترك جانباً منها إلا أضاءه وأكمل منه ما فات الرواة. وليس من شك في أن ذلك قد عرض بأسلوب جميل هو أسلوب القصص الممتاز الجامع بين التحليل النفسي للأشخاص، والإحاطة التامة بما يعرض له من مواقف
أما توفيق الحكيم فقد توسط الاثنين، وجمع بين ميزتي العالم والأديب الممثل، فكانت سيرته أخف شيء على النفوس. استشار المراجع القديمة، ووقف عندما رسمت دون أن يستعين الخيال إلا قليلاً؛ وقد ألم بأطراف موضوعه وقسمه فأحسن التقسيم، ثم اختار قضاياه