وبين أنفسهم؛ فإنه ليقصد إلى البيت فيسند ظهره إلى الكعبة يقول:(يا معاشر قريش، والله ما منكم على دين إبراهيم غيري، وإنكم لتعبدون ما لا يغني عنكم من الله شيئاً. يا معاشر قريش، إنكم لتأتون المنكر، وتقارفون الشر، وتئدون البنت، وتكفرون النعمة. يا معاشر قريش، أيُّما رجلٍ منكم هم أن يقتل ابنته خشية إملاق فأنا أكفيه مئونّتها. يا معاشر قريش. . . يا معاشر قريش. . .)
فإذا فرغ من دعوته وجّه وجهه لله يقول:(لبّيك حقاً حقا، تعُّبداً ورِقًّا، عُذْتُ بما عاذ به إبراهيم. اللهم لو أني أعلم أيّ الوجوه أحب إليك عبدتُك به، ولكني لا أعلمه. . .) ثم يسجد على راحته ويقول:
أنفى لك اللهَّم عان راغمُ ... مهما تجشِّمني فإني جاشمُ
ولم يزل زيد على ذلك: يذكّر قومه ويعيب عليهم ما يعبدون، حتى ضاقوا به؛ فأجمعوا على نكايته وترّبصوا به الشر؛ ثم مازال به عمه (الخطّاب بن نفيل) يؤذيه وينال منه حتى أجاءه إلى (حراء) لائذاً بالله مستجيراً؛ فوكل به الخطاب شباباً من سفهاء قريش يأخذون عليه الطريق وينالونه بما يكره إن هَمَّ أن يعود إلى مكة، خشية أن يُفسد عليهم دينهم ويتأثره بنوهم. وكانت زوجه فيمن كان من عيون الخطاب عليه، لا يكاد زيد يهم أن يدخل مكة حتى تُؤذِن به الخطابَ فيقف له؛ ثم يتناوله السفهاء من شبابهم بما يقدرون عليه حتى يعود على وجهه!
رجل فرد في وجه أمة، قد برئ منه أهله، وتمردت عليه زوجه، وتذامر سفهاء الإنس وشياطين الجن على مناهضته والوقوف له؛ ولكنه من قوة الإيمان بحيث يغالب ما لا غلبة عليه!
وأيّ قوة في الأرض تنال من الرجل يعمر قلبه الإيمان؟
. . . وأرادوه على أن يلزم مكمنه من الجبل لا يبرح، لا هابطاً إلى الكعبة يسبح الله في البيت الحرام، ولا مُصعداً يلتمس أسباب المعرفة في بلاد الله؛ ولكن صوتاً من وراء الغيب يهتف به، ونوراً يتنوره على بعد يضيء بين يديه، وإيماناً يعمر قلبه يذلِّل ما يتكاءده من عقبات على الطريق.
كان يؤمن إيماناً لا شك فيه أن للكون رباً غير ما يعبد الخطاب وبطون قريش؛ هو رب