(طلبت القتل في مظانه، فلم يقدر لي إلا أن أموت على فراشي، وما من عملي شيء أرجى عندي بعد لا إله إلا الله، من ليلة شديدة الجليد في سرية من المهاجرين، بتها وأنا متترس، والسماء تنهل عليّ، وأنا أنتظر الصبح حتى أغير على الكفار، فعليكم بالجهاد. . .
لقيت كذا وكذا زحفاً، وما في جسدي شبر إلا وفيه ضربة بسيف، أو رمية بسهم، أو طعنة برمح، وهأنذا أموت على فراشي حتف أنفي كما يموت البعير، فلا نامت أعين الجبناء. . .
إذ أنا مت فانظروا في سلاحي وفرسي، فاجعلوه في سبيل الله)
هذه حسرة الفاتح الكبير، الذي لم يفارق النصر موكبه ساعة قط. هذه كلمات الذي ساق السعادة إلى بلدين كبيرين: العراق والشام، تفيض باللوعة والأسى، فتثير الإجلال والحزن من أقصى مكامنهما في النفوس.
يتلهف أبو سليمان وهو يحتضر - وكل جسده إما مطعون أو مضروب أو مرمي - على أن لم يقض بين الصفين، أو أمام الحصون، أو في الثغور، جندياً يتخبط بدمه الشاخب، في سبيل إعلاء كلمة الله، ظامئاً مُجهداً مُشعثاً، يرسل من فيه شهادة الحق مع آخر نفس يخرج من صدره الحنون:
رحمك الله يا أبا سليمان! وليس بيدك ما تمنيت، فالله وحده يتوفى ويختار، وما عليك ألا تموت في الساحة بين الصفين، فما كنت لحظة من اللحاظ لتفتر عن جهاد، أو تعبئة لجهاد، أو حديث نفسي بجهاد. ما كنت يا ابن الوليد إلا جهاداً متلاحقاً في سبيل الواجب. لقد أرضيت ربك فجعلك سيفه في الأرض، وأرضيت رسوله فحمد أمرك ورضي عنك، وأرضيت خليفته حتى قال:(ما على نساء قريش أن ينشئن مثل خالد)! وعمر نفسه حين لامك لم يترك إكبارك، ولما نزل الشام ورأى معجزاتك في الفتوح لم يملك أن قال:(أمَّر خالد نفسه، يرحم الله أبا بكر، هو كان أعلم مني بالرجال).
لقد كنت أمة في رجل، فعليك الرحمة من هؤلاء جميعاً، من كل من حارب تحت لوائك. وعليك الرحمة من النساء والصبيان والرهبان والفلاحين والمستضعفين الذين لم تكن تفتأ توصي جندك المنصور برعايتهم، والكف عنهم، والرأفة بهم. وعليك الرحمة من كل نسمة خلصتها من قسوة الفرس، أو ظلم الرومان.