لقد تركت مرتون في نفس إسخيلوس أثراً لا يعد له إلا أثر سلاميس، وليس يعدل هذين الأثرين شيء آخر في نفس الشاعر الجندي الذي أخذ يبني مجده الأدبي على أكوام من أشلاء القتلى الذين أكلتهم هذه المجزرة الهائلة بين عدو قوي كثير العدد وبين أمة ضعيفة بعددها كثيرة بوطنيتها استطاعت ببضعة آلاف أن تقهر أكثف جند عرفه التاريخ
خرج إسخيلوس من هاتين المعركتين شخصاً أخر شديد الإيمان بقوة السماء مكبراً لسلطان الآلهة أيما إكبار، مقتنعاً باليد العليا التي تسهر على الكون وتدبر أموره، وترد الحق إلى المظلوم وتكبح جماح الظالم مهما كان ذا حول وطول وقوة. . . وقد ظهرت هذه الروح في أكثر دراماته التي نظمها بعد هذه الحرب، وهي أروع ما نظم.
أما سنة ٥٠١ فهي مفتتح القرن العظيم الباهر، القرن الخامس قبل الميلاد الذي يزهى على الزمان بما أفاء على الإنسانية من علم وأدب ومن نور وعرفان. . . وقد كان مطلعه مطلع سعد لعبقرية إسخيلوس، فقد مثلت أولى دراماته في أولى سني هذا القرن، وسنه حينذاك لم تتجاوز السادسة والعشرين.
ولعل عام ٤٨٤ ق. م هو أهم الأعوام في تاريخ الأدب اليوناني جميعاً. . . وذلك أن مؤرخي هذا الأدب يجعلونه بداءة الفترة الذهبية المجيدة ليس في تاريخ الأدب اليوناني فحسب، بل في تاريخ الأدب الصرف قاطبة، وهم يبدءونها بهذا العام الذي أحرز فيه إسخيلوس أولى جوائزه الأدبية في المسابقة العامة بدرامة مفقودة قلب بها الأوضاع القديمة رأساً على عقب، ووضع الدعامة القوية القويمة للمسرح الحديث، حتى ليصح أن يطلق على هذه السنة: السنة الأولى تاريخ الأدب المسرحي.
وهم يجعلون هذه الفترة بين عامي ٤٨٤ و٤٣١ حينما أحرز يوريبيدز أخرى جوائزه بدرامته الخالدة ميديا. . . وعلى ذلك تمتد الفترة إلى ثلاث وخمسين سنة مثل فيها على مسرحي أثينا أكثر من ألف درامة منها تسعون لأسخيلوس ومائة وثلاث وعشرون لسوفوكليس وثمانون ليوريبيدز وأكثر من مائتين لشاعر عظيم لم يحفظ لنا الأثر اسمه ومئات أخرى لشعراء نعرف بعضهم ونجهل بعضهم الآخر. . . وليس الكم فقط هو العجيب في هذا الإنتاج الباهر، بل الكيف أيضاً هو الذي يسحر ويبعث على الدهش، فهذه