وأما من خاف الموت لأجل العقاب الذي يوعد به فينبغي أن نبين له أنه ليس يخاف الموت بل يخاف العقاب، والعقاب إنما يكون على شيء باق بعد البدن العاثر. . . فهو إذا خائف من ذنوبه لا من الموت، ومن خاف عقوبة على ذنب فالواجب عليه أن يحذر ذلك الذنب. . .
وأما من زعم أنه ليس يخاف الموت وإنما يحزن على ما يخلف من أهله وولده وماله ونسبه، ويأسف على ما يفوته من ملاذ الدنيا وشهواتها، فينبغي أن نبين له أن الحزن تعجل ألم ومكروه على ما لا يجدي الحزن إليه بطائل، وسنذكر علاج الحزن في باب مفرد له خاص لأنا في هذا الباب إنما نذكر علاج الخوف، وقد أتينا منه على ما فيه مقنع وكفاية، إلا أنا نزيده بيانا ووضوحا فنقول:
(إن الإنسان من جملة الأمور الكائنة، وقد تبين في الآراء الفلسفية أن كل كائن فاسد لا محالة، فمن أحب ألا يفسد فقد أحب ألا يكون، ومن أحب ألا يكون فقد أحب فساد ذاته، فكأنه يحب أن يفسد، ويحب ألا يفسد، ويحب أن يكون، ويحب ألا يكون، وهذا محال لا يخطر ببال عاقل، وأيضاً فإنه لو لم يمت أسلافنا وآباؤنا لم ينته الوجود إلينا، ولو جاز أن يبقى الإنسان لبقى من تقدمنا، ولو بقى من تقدمنا من الناس على ما هم عليه من التناسل ولم يموتوا لما وسعتهم الأرض. . . قياما فكيف قعودا أو متصرفين؟. . .
(فقد ظهر ظهورا حسيا أن الموت ليس برديء كما يظنه جمهور الناس وإنما الرديء هو الخوف منه، وأن الذي يخاف منه هو الجاهل به وبذاته. . . وأما جوهر النفس الذي هو ذات الإنسان ولبه وخلاصته فهو باق وليس بجسم. . . وإنما (يستفيد) بالحواس والأجسام كمالا فإذا كمل بها ثم خلص منها صار إلى عالمه الشريف القريب إلى بارئه).
وبعد فهذا تدليل مسكويه على وجود عدم الخوف من الموت بناه في مجموعه على روحانية النفس وأقامه على المنطق المستقيم والذوق السليم، فهلا ترى معي أنه أبدع في الكثير من حججه إبداعاً جديراً بالتقدير؟ الحق أننا ندعو ملحين إلى قراءة كتابه (تهذيب الأخلاق وتطهير الأعراق)، وإلى المقارنة بينه وبين كتب أرسطو وأفلاطون في الأخلاق لأنا نعتقد أنه يفوقهم في الكثير من فصوله قوة ومنطقاً واتساقاً وانسجاماً. وأنه يقترب في بعض أفكاره من الآراء الفرنسية التي ظهرت أخيراً وعالجت نواحي علم الأخلاق.