من يدري، من يدري؟ إن هنا سرّ الأزل، وسرّ الأبد، وبرهان الخلود!
حياة بين حياتين، ليس لنا من العلم بأولاها إلا بطن الأم، وليس لنا من العلم بالأخرى إلا بطن الأرض، ونحن بين الحياتين في مضطرب مائج لا نكاد نحس إلا ما تقع عليه أعيننا وما تلمس أيدينا، وإننا على ذلك لنزعم أن لنا الحق في أن نتحدث عم قبل الحياة، وما وراء المادة في جدال السفيه ودعوى المغرور!
ابنتي طفلة في المهد لم تتجاوز من العمر في تاريخ البشرية إلا أياماً معدودة، ولكنها إلى ذلك كبيرة كبيرة في نفسي وفي أوهامي، إنها لم تولدْ أمس، ولكنها كانت في رحلة ثم آبت. إنها كبيرة كبيرة لأنها كانت تعيش في أحلامي منذ سنوات وسنوات. منذ أيقنت أنني يجب أن أكون أباً؟
هل كنتِ تسمعين نجواي يا بُنيتي من وراء حدود المجهول وقد جلست ذات مساء أهتف باسمك في دنيا الأماني متسائلا: أين أنتِ يا ابنتي؟ أين أنتَ يا ولدي؟ أين أنتِ يا زوجي التي لم أرها ولم أَعرفها بعد؟ أين أنتم يا أحبائي؟
. . . طفلةُ هي على حساب الزمن إن كانت سن الحي تُعَدُّ بالسنين والأيام؛ فكم تكون سنها على الحقيقة منذ كانت أمنيةً تتراءى لي في اليقظة وطيفاً يُلمُّ بي في الأحلام؟
صورة إنسان في بضعة أرطال من لحمٍ ملفّفة في طيات الفراش، ولكنها معي أينما كنتُ، أُطوِّف بها ما أُطوِّف في دنيا عريضة من الأماني والأوهام!
خرساء مالها بيانُ بعد، فإذا التقت عينان بعينين فإن بينها وبين نفسي حديثاً أفصحَ من حديث كل ذي شفةٍ ولسان!
طفلةُ هي إذا نظرتُ إليها في فراشها هادئة مستسلمة لا تقدر على الحركة؛ فإذا أغمضتُ عيني وسبحتُ فيما أسبح من آمالي فهي غير منْ هي: صبيّة تدرج، أو فتاة تخطر، أو عروس في جلوة العرس إلى ذراع عروس. . .!
تعالي إلي يا بنيتي أضمك إلى صدري؛ إنني أنا أبوك؛ أتراك تعرفين؟
هاتان عيناك الساجيتان تنظران إلي نظرات ليستْ من مثل ما تنظرين إلى أخي وابن عمي؛ برِّبك من علمك؟