بين عامة الفلاحين في قرية من قرى مصر فاضطلع بقضية، ونادى على رأس المنادين بمطالب مصر، وصار اسمه في موقف هام من مواقف نهوضها علما على الجهاد ورمزاً للمقاومة حتى شاءت الظروف فامتشق الحسام وسار على رأس جيش من بنيها يذود عن أراضيها ويقف غير هازل ولا طامع في وجه الغادرين الباطشين من أعدائها. . .
بهذه الروح اكتب عن عرابي، وعلى هذا الأساس أبين سيرته، فالإخلاص في الرجال هو عندي مقياس بطولتهم الأول، بل هو فيما أرى اصح المقاييس وأهمها؛ أما الصواب والخطأ وما إليهما، فأمور توجد في الأبطال وغير الأبطال، ولا فرق فيها في كثير ولا قليل بين هؤلاء وهؤلاء!
ولد أحمد عرابي في عام ١٨٤٠ م في قرية تدعى هرية رزنة بمديرية الشرقية، ونشأ الصبي القروي كما ينشأ الآلاف مثله في قرى مصر على نمط من العيش لا نحسبه يختلف كثيراً باختلاف العصور في هذه القرى التي نبتت على ماء النيل منذ الأزل. . .
نشأ في هذه القرية الصغيرة ذلك الصبي الذي قدر له أن يجري اسمه يوماً ما على كل لسان في مصر ودرج بين لداته عرضة للأمراض المختلفة، يحيط به في الجهل والفقر أينما اتجه، ولا يجد حوله من مظاهر الحياة والعمران مثل ما يجده صبي مثله ينشأ في مدينة كبيرة أو يتلقى العلم المنظم في مدرسة منظمة
على أنه يذكر عن أبيه في مذكراته أنه كان (شيخاً جليلاً رئيساً على عشيرته عالماً ورعاً تقياً نقياً موصوفاً بالعفة والأمانة)؛ ومهما يكن من أمر أبيه فليس يعنينا في هذا المقام سوى أنه أرسل ابنه إلى مكتب القرية وهو كما يقول ابنه من منشآته فيها، وفي هذا المكتب فتحت عينا الصبي على نور العلم فحفظ شيئاً من القرآن وتعلم القراءة والكتابة؛ وتعهده صراف القرية زمناً فعلمه مبادئ الحساب
ومات أبوه وهو في الثامنة من عمره، ولكن يتمه لم يحل بينه وبين أن ينال قسطاً من العلم في الأزهر فلقد أرسله أخوه الأكبر إلى هناك عسى أن يكون عالماً من علمائه، ولكن الصبي لم يلبث بالأزهر كثيراً فعاد إلى قريته، وكان من الممكن أن يعيش في تلك القرية ثم يموت فيها كما يعيش ويموت فيها كما يعيش ويموت سواه من الفلاحين من أهلها. . .
ولكن الأقدار تخرجه من هذه القرية ليغدو فيما بعد رجلاً من رجال مصر، وليثبته التاريخ