للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

لأنكى ألوان العذاب، ينهش الباشق كبده نهاراً ثم ترقأ جراحه ليلاً وتنمو الكبدة، فإذا أصبح عاد الباشق إلى نهشه وتعذيبه وهكذا دواليك. . لكن برومثيوث إله فهو لا يموت، ثم هو لا يقهره هذا العذاب بل هو يصبر له في سبيل سعادة الإنسان الذي خلقه وحضّره وجلب له النار وعلمه الفنون، والإنسان مع ذاك شاكر له ذاكر أياديه فهو يصلي له ويقنت، والفتاة يو البائسة المعذبة التي سلطت عليها حيرا زوجة سيد الأولمب هذا الوحش الفظيع آرجوس والذبابة المؤلمة تلدغها وتسومها من العذاب ألواناً. . . هاهي واقفة بجانب برومثيوث تواسيه وتتوسط له عند التيتان ليستغفروا له سيد الولمب فلا يغفر له، لأنه قوي مجنون ليس في قلبه شفقة ولا يعرف فؤاده العدالة. . . ويصبر برومثيوث ثم يصبر، ولا يرضى أن يخذل الإنسان لأن الإنسان يصلي له ولا يني عن عبادته. . . وفي الحلقة الثانية يذهب هرقل بن سيد الأولمب في إحدى مجازفاته فيشهد برومثيوث مصفداً في قُنَّة الجبل والطير تنهش كبده، فينقض على الباشق الجارح ويقتله، ويرد إلى برومثيوث حريته. فينطلق هذا الإله الطيب ويلقاه الناس مسبحين بحمده فرحين مستبشرين. . . وفي الحلقة الثالثة (برومثيوث حامل النار) يصف إسخيلوس احتفاء الأثنينيين بالإله الذي ضحى نفسه واحتمل نفسه واحتمل الآلام في سبيل الإنسان

هذه خلاصة سريعة لأعظم درامات إسخيلوس، وبرومثيوث خي درة فلسفية أعجب بها الشعراء في كل العصور، وقد عارضها شللي الشاعر الإنجليزي بمنظومة رائعة جرى بها في أذيال إسخيلوس. . . وقد كان إسخيلوس لاذعاً في هذه الدرامة، فقد سخر بهذا الإله المتغطرس زيوس الذي كان يكره الإنسان ويناوئه ولا يريد له الخير الذي أراده له برومثيوث. وجماع فلسفة إسخيلوس في هذه الدرامة أن القوة التي تهيمن على هذا العالم يجب ألا تكون قوة مجردة لا عقل لها، بل يجب أن تتضافر القوة والحكمة بحيث لا تطغى إحداهما على الأخرى لخير الإنسانية وعمار الكون، فإذا اختل التوازن بينهما لم يصح أن تكون هناك آلهة. . إذ كيف يكون إلهاً ذلك الذي يعذب إلهاً آخر (برومثيوث) ثلاثين ألف سنة؟ بل كيف يكون هذا الإله عاقلاً؟

وبعد، فلقد كان إسخيلوس يحتقر الديانة اليونانية ويعرف أنها أضغاث، وقد احتقرها من يوم نبوءة دلفي التي أمرت اليونانيين بأن يستسلموا للفرس لأنهم لا يغنون عن أنفسهم من

<<  <  ج:
ص:  >  >>