راعني، وأيم الحق، تلك الحرية العجيبة، وكيف أن عقول الناس في هذا البلد، تصغي إلى كل هذه المبادئ المتباينة ولا تتأثر بها، وكيف أن حلمهم يسع كل هذه الطعنات في أنظمتهم وعقائدهم وآرائهم. ولو كان هؤلاء الدعاة في أمة أخرى غير إنجلترا لزجوا في غيابات السجون، أو حزت ألسنتهم أو قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف لما ينفثونه بين الناس من سموم، وما يريدونه من شر بالحكم ونظامه والمجتمع واستقراره
تركت تلك الجلبة الصاخبة، وأخذت أجوب الحديقة، فشاهدت ما لا عين رأت ولا أذن سمعت؛ رأيت الفضيلة تذبح في معبد الشهوات، والناس لا يتورعون عن الفاحشة تحت شمس الضحى، وقد عادوا أشبه بالضواري في أدغالها، لا قانون ولا نظام ولا حرمة ولا حياء. انتهكت الأعراض علانية، ووطئت المكارم طواعية؛ ولم يرتفع صوت يهيب بهم: أن رفقاً بمبادئ الإنسانية والشرائع الدينية، والمثل الخلقية
بل سمعت أدهى من ذلك وأمر، أعني حماية رجال الشرطة لكل من في الحديقة، والضرب على يد كل من يتصدى لهم واعظاً أو مبكتاً، وأن الحديقة حرم يأوي إليه كل من يريد أن يفرج عن نفسه أو يطفئ نار شهوته، أو يفوه بما يعد جريمة في مكان غير هذا؛ وأن الشعب هنا يسير على سجيته وفطرته، فلا يتقيد بعرف أو نظام، بل يتمتع بالحرية المطلقة
فقلت: رحماك ربي، إن هذه أعجوبة العصر. . .!
ثم سألت شرطيا: أيتاح لي أن أعتلي منبراً كهؤلاء الخطباء؟
- ولم لا؟ ما عليك إلا أن تستأجر منبراً وتقول ما شئت، وإن استجاد الناس حديثك استمعوا لك، وإن لم يلذ لهم انفضوا من حولك
تركته شاكراً متعجباً، وقد عقدت العزم على أن أدحض باطل هذا الدجال الصهيوني الذي يفتري على الحق، ويعلي كلمة الزور والبهتان، ويدعي وطناً ليس له بحق عربي مبين؛ وقلت لنفسي: ما دام للدهماء في هذه البلاد كلمة وسلطان فجدير بي أن أسمعهم صوت فلسطين العربية
ثم عدت وزمرة من لداتي أبناء العروبة، نتبارى في تبيان قضية العرب العادلة؛ وكانت ملحمة حامية الوطيس بيننا وبين الصهيونيين، سأرجئ وصفها إلى حديث آخر إن شاء الله