ولقد كان الرافعي فيما أرى من عظماء رجال القلم لا في مجال العربية فحسب بل في مجال الفكر البشري كله. وكان رحمه الله من ذوي الأصالة، تجيش نفسه بالمعاني كما يتفجر الينبوع بالرائق العذب، لأن من طبيعته أن يتفجر بهذا دون حاجة إلى مدد من غيره: فلقد حيل بينه وبين الأدب الأوربي لأنه لم يتحرك بلغة من لغاته لسانه، وحيل بينه وبين مناقشات الناس في مجالسهم لأنها لا تنفذ في مسمعيه، فلم يبق إلا أن يقرأ العربية ثم ينطوي على نفسه ينظر ويتدبر. . .
أعجب سعيد بأدب الرافعي ثم ابتغى إليه الوسيلة حتى لقيه فنشأت بينهما صلة، ثم توثقت الصلة فكانت مودة، وتزايدت المودة فصارت إخاء، ثم كان بعد ذلك ما يكون بين الصديقين الحميمين من زيادة الألفة ورفع الكلفة. وتسنى بذلك لسعيد أن يدرس الرافعي الرجل في شخصه وأن يستبطن دخيلة نفسه كما درس الرافعي الكاتب في آثار قلمه، ومن هذه الناحية كملت ترجمته فهي كما ذكرت الناحية التي تكمل بها التراجم
وأدب الرافعي ثروة عظيمة يضم إلى تراثنا، ودراسة هذا الأدب لاشك أمر مطلوب في ذاته لناشئة الأدب عامة؛ ثم هو أمر لا غنى عنه للباحث المثقف شأن كل أدب رسخ أصله وامتدت فروعه
والرافعي كغيره من فطاحل الكتاب لابد من معرفة حياته لنفهم آثاره، بل لعله أجدر بذلك من كثيرين غيره لما أشرت إليه من صفاته؛ هذا إلى إنه لابد في دراسته من هاد، فلقد يعظم ويسمو أحياناً حتى ليغدو كالجبل الأشم لابد لمن يريد ارتقاءه من دليل. اقرأ على سبيل المثال مقالاته في النبوة، واقرأ مقالاته: رؤيا في السماء، وابنته الصغيرة وبين خروفين وإضرابها تجد البرهان على ما أقول؛ ولقد يرق ويسهل حتى تصبح مقالاته كأفواف الزهر ولكن لابد ممن يشير إلى سر جمالها، ثم لقد يعمق ويدق حتى يصير كالجدول المتواري لا سبيل إلى معرفة منبعه إلا أن يهديك إليه هاد، خذ مثالاً لذلك مقالاته في الجمال البائس والمشكلة، ثم لا تنس أوراق الورد ورسائل الأحزان وأشباهها فإنك لن تفهمها حق الفهم إلا أن تعرف المنبع الذي تفجرت منه. . .
ويسرني أن أذكر أن الأستاذ سعيداً قد دلنا بكتابه على نواحي القوة والجمال في هذا الأدب الفذ، ثم لقد كشف لنا من أسراره وخبيآته، وفرغ من عمله على خير ما يرجى من الجودة،