بعامين (٤٠٤). . . عاصر سوفوكليس هذه الأحداث الجسام لكنه لم يندغم فيها، لأنه كان يشهدها بطبع الفنان الذي يؤثر الراحة ويخلد إلى الأدب ويطلب السلامة، لا سيما إذا كان في مثل ثروة سوفوكليس وجاهه اللذين رشحاه لعضوية أعظم مجالس الأمة بالرغم من قلة درايته بالأمور الإدارية وعدم بصره بشئونها. . . حتى قيل إنه كان إمّعة بين زملائه يوافق إذا وافقوا ولا يدري على أي شيء يوافق، ويرفض إذا رفضوا ولا علم عنده بما يرفضون. . لكنه مع ذاك أديب أثينا وفنّانها وبلبلها الغرّيد الذي يهذب ويوحي ويلهم ويواسي ويُسلي ويبكي ويغني وينفذ إلى سُوَيْداءات القلوب
لقد كان إسخيلوس صارماً متجهماً يرمي بشرر كالقصر حينما يرتطم بالقضاء والقدر، وكان يؤثر الأسلوب الفخم في الأداء والعبارة الفصيحة والمجاز العميق، وكان ينقصه كثير من روعة الفن. . . أما سوفوكلس فقد خلص من كل القيود التي تحول بينه وبين قلوب الناس. . . إنه لم يرتبط بنظام الثلاثيات الذي أخذ به إسخيلوس نفسَه، بل كان يعمد إلى الموضوع الذي كان إسخيلوس ينظمه في ثلاث درامات فيجعله هو درامة واحد في ثلاثة مشاهد مستعيناً على ذلك بسرعة الأداء وتقصير الحوار وتركيز الغرض والمحافظة على الوحدة في العبارة السهلة والبيان الهيّن
وليس هذا هو كل ما أدخله سوفوكلس على الدرامة اليونانية بل لقد أدخل عليها ألواناً من التجديد لم يلبث الجمهور أن شغف بها وأجاد تذوقها، فمن ذلك اتخاذه المناظر المنقوشة ثم اقتصاده في التهويل في كل من الصوت والملابس التنكرية وإيثاره النشاط ومقته للحركة البطيئة التي تشل الممثل وتربكه وتذهب بروعة الأداء وتشوه جمال التمثيل. . .
لقد كان سوفوكلس وسطاً ما بين إسخيلوس ويوريبيدز، لأنه وإن يكن قد حافظ على العنصر الديني في معظم درامته فجرى بذلك في غبار إسخيلوس إلا أنه اقترب إلى الناس وابتعد عن الآلهة ولم يرفرف دائماً فوق شعاف الأولمب كما كان يصنع إسخيلوس. . . لقد عرف القلب الإنساني واكتشف ما فيه من الكنوز التي لا تقوم بدونها دولات الدرام. . . لقد لمح القبس المقدس الذي يعمر قلوب البشر. . . القبس الإلهيّ!. . . الحب!. . . لقد أشركه في دراماته ولم ينأ به كما صنع إسخيلوس. . . لقد جعل له نصيباً أوفى في توجيه كثير من درامته وحل عُقَدها. واستطاع أن يصوغ له اللغة البراقة الدفاقة والأسلوب المصطخب