وهنا تكتسح عظمة سوفوكليس تدبير أعدائه، فإن ولده برميه أمام القضاة بتهمة العَتَه والسفه، فما يكاد يقولها حتى يقف الشاعر العظيم، ثم ينسخ التهمة بإلقائه وتمثيله إحدى قطعه الخالدة من درامته (أوديبوس في كولونوس) التي كان ينظمها خلال تلك المحنة، وسرعان ما يصفق له القضاة الذين خلبهم بشعره الرفيع الرصين، وفنه الجميل العالي، وتمثيله القوي الخلاب، ثم يحكمون بسلامة تفكيره وحريته المطلقة في تصريف شئونه. . . وهكذا اعتبر القضاة غرام سوفوكلس من شئونه الخاصة فلم يدمغوه بحكم يذهب بشرفه وربما كان يقضى على تلك العبقرية الرائعة التي عكست سناها على جميع العبقريات في جميع عصور المسرح.
. . . فغرام سوفوكلس بالغيد الأماليد لم يكن إلا إيحاءً فَنّياً تستلزمه حياة الفنان وتقسره عليه ميوله. ويكاد كل فنان يكون خاضعاً لمثل هذا الإيحاء، وقد خضع له إسخيلوس من قبل، فقد روُى أنه لم يكن يستطيع أن يحسن شيئاً من الشعر الرفيع إلا حين تلعب بلبّه حُميّا الخمر. وقد قال فيه سوفوكلس إنه نظم أبدع روائعه وهو لا يدري ماذا يقول ولا ماذا ينظم. . . على أن هذه المغامرة الغرامية قد ذهبت جُفاءً في حياة سوفوكلس، فلم تترك فيها وصمة، ولم تلطخها بالعار، بل على الضد من ذلك فقد زاد شغف الناس بشاعرهم العظيم حتى قيل إن طائفةً منهم عبدوه بعد موته عام ٤٠٦ باسم الإله البطل دكسيون الذي يؤثر أنه ضاف في منزله الإله أسكلبيوس واعتبروا قبره طريق دكليا دار حج لهم
ولد سوفوكلس سنة ٤٩٦ وتوفي سنة ٤٠٦ ق. م وفاز على إسيخيلوس وهو في الثامنة والعشرين ثم لبث يمد المسرح نيفاً وستين عاماً درامتين كل سنة، فهو بذلك قد ملأ القرن الخامس العظيم من تاريخ أثينا بأدبه وروائعه، وشهد جلائل الأعمال التي تمت في هذا العصر وعادت بالخير الجزيل على اليونان خاصة وعلى الإنسانية عامة. . . لقد كان سوفوكلس أنضر زهرة في حديقة بركليس العظيم. . . لقد شهد نهضة الفن وساهم في نهضة الدرام، ووقف من شرفة برجه الرفيع يطلع على ذاك الصراع العنيف بين أثينا وأسبرطة، ويرى إلى الديمقراطية تصارع عسكرية الأسيرطيين فتساجلها مرة، وتواثقها مرة، ثم يموت بركليس فتسقط أثينا في الميدان وتغزوها أسبرطة بعد موت سوفوكليس