توقعوا قدومه، ونتيجة ذلك أنهم كانوا أكثر قدرة على فهم ما يقول محمد - وهو أنه رسول - وقبوله من أهل مكة الوثنيين الذين كانت فكرة الإسلام لهم غير مألوفة، كما كانت منبوذة من القريشيين خاصة، لأن سلطانهم على القبائل الأخرى، وغناءهم المادي ما كانا إلا لأنهم السدنة الورثة لجمهرة أصنام العرب التي نصبوها في حرم الكعبة
يضاف إلى هذا أن يثرب كانت مشتتة النظام لما حل بها من النزاع الداخلي الذي أشعل ناره شنآن قديم بين الأوس والخزرج. كان السكان دائماً في اضطراب وقلق، ولهذا اعتبروا أي عمل يؤدي إلى ائتلاف القبيلتين المتخاصمتين فأل خير وبشرى لمدينتهم
لقد حدث في القرون الوسطى أن اختار سكان الجمهوريات الشمالية لإيطاليا أجنبياً ليكون الحاكم الأعلى على جميع مدنهم، حتى يحتفظوا بالتوازن بين قوات الأحزاب المتنافسة، وحتى يتفادوا - بقدر المستطاع - الخصومات الداخلية التي كانت قاضية على التجارة، والأمن العام. وشبيه بهذا ما وقع من أهل يثرب، فإنهم لم ينظروا إلى ظهور أجنبي بينهم بعين التهمة، حتى حين أدركوا أنه ربما يستغل ما كانوا فيه من انحلال ليكتسب لنفسه سلطاناً عليهم.
إن الواقع ليثبت عكس ما كان يظن، إذ يظهر أن أحد الأسباب التي جعلت أهل المدينة يرحبون بمحمد (ص) ترحيباً محموداً هو أن العقلاء والمثقفين من السكان قد تبينوا أن اعتناق الإسلام هو العلاج الوحيد للاضطراب الداخلي الذي عانوه مدة من الزمن، لما جاء به الإسلام من نظم المعاش القويمة، ومن إخضاع الشهوات الإنسانية الجامحة لتهذيب القوانين الموحى بها من سلطة أعلى وأسمى من سلطة البشر المتقلبة.
وتوضح لنا هذه الحقائق كيف استطاع محمد - بعد ثمانية أعوام من الهجرة - أن يرأس جيشاً من أتباعه تبلغ عدته عشرة آلاف نفر، وأن يدخل المدينة التي جاهد فيها من قبل لينشر دعوته مدة عشر سنين فلم يفلح إلا قليلاً
لقد تعجلت الحوادث فيما ذكرت الآن. فلنعد إلى بدء عرض محمد نفسه على أهل الخزرج الذين دخلوا في الإسلام أن يصحبهم بنفسه إلى يثرب، ولكنهم رغبوا إليه في أن يعدل عن ذلك حتى يحدث صلح بينهم وبين بني الأوس. وقالوا:(إننا نتضرع إليك أن تدعنا نعود إلى قومنا لعل الله يخلق السلم بيننا فنرجع إليك بعد ذلك. وموعدنا موسم الحج القادم).