ليس إلا نتيجة عمل الإنسانية الخالدة التي لا تفتر عن العمل لحظة من اللحظات لخير المجتمع كله. أليس ما ننعم به اليوم من سيارات وطائرات وراديو ولا سلكي وكهرباء بعض أعمال شركائنا في الإنسانية الذين عانوا في سبيل ابتداعها أو كشفها كثيراً من الآلام وعملوا لأجلها مالا يستهان به من التضحيات؟ ثم من الناحية العقلية والأدبية نجد اللغات والعلوم والآداب إرثا اجتماعيا أمدتنا به الإنسانية على طول الأيام.
لهذه النظريات الاجتماعية يستنتج (كونت) هذه النتيجة الأخلاقية وهي: أن الفرد يجب أن يعيش لأجل العائلة والإنسانية، وبعبارة أخرى يجب أن يكون مبدأه (الحياة لأجل الغير). إذن تكون الأخلاقية أو الخلقية هي أن نمكن للإيثار على حساب الأثرة. بل يقول أحد من يرون هذا الرأي وهو الأستاذ (جوبلو (ليس الإحسان عطية يقطعها المرء من ماله، بل هو تعويض واجب عليه دفعه)
حقاً هذا استنتاج جميل تعلق به الأفئدة ويتفق مع أعلى التجارب الأخلاقية للإنسانية، ولكن نقطة السير في هذه الأخلاق المبنية على هذه النظريات ليست من القوة والتسليم بحيث تفرض نفسها على العقل بطريقة جازمة. كون الفرد ليس إلا أثراً من المجتمع محل نزاع قوى. الضمير النفسي الذي يكشفه الإنسان في نفسه حقيقة من الحقائق، أل (أنا) حقيقة يقينية لا شك فيها، بل ربما كانت الحقيقة الآكد من سواها. لأنه كما يقول (ديكارت): (من الممكن أن أشك في العالم الخارجي ولكن لا يمكن أن أشك في شكي هذا. لا يمكن أن أشك في فكري. ليس من الممكن أن أشك في وجودي ككائن مفكر. إذن أنا أفكر فأنا موجود)
ثم هذا الاستنتاج الكُونتي يصلح حقيقة لإثارة النفوس المتشبعة بالمثل الأعلى الأخلاقي، إلا أنه لا يفرض نفسه منطقياً على كل النفوس والعقول. هذا امرؤ يعتقد الواجب ويؤمن به، فحينما يفهم أنه صنيعة العالم والإنسانية وأنه بدونهما لا يكون شيئاً، يجد من المنطق أن يرد الجميل وان يحيا في سبيل الغير. وذاك الذي ليس عنده أية فكرة سابقة عن الواجب، أية مخالفة للمنطق في قبوله كل مقوماته من المجتمع دون أن يرد له شيئاً، حقيقة ليس من الأخلاق أن ينفق المرء في سبيل لذائذه الأنانية الأموال التي جمعت بطريق الغير، والقوى المركزة فيه من الأسلاف السابقين. لكن هذا إن لم يكن من الأخلاق ليس من السهل وصفه بأنه لا يتفق مع الروح العلمية المنطقية