فجلسنا في ظل شجرة على الطريق نستريح، وهممنا أن نبسط ما كان معنا من طعام شهي لنأكل، فما وجدنا في أنفسنا رغبة، فتركناه لجماعة من القرويين لم ننتفع منه بشيء!
وأخذنا نسترجع ما فات، فتعاهدنا على الكتمان حتى لا يعلم أحد بما نالنا، فإن لنا في المدينة لسمعة نحرص عليها أن تنوشها ألسنة السوء بالباطل؛ ثم أصلحنا من ثيابنا ما استطعنا واستأنفنا المسير إلى بيوتنا فبلغنا عند الأصيل. . . وقضيتُ في فراشي بضع عشرة ساعة أتلوّى من الألم لا يحس أحد ما بي. . .
وفي الصباح توكأت على نفسي إلى المدرسة لا تكاد تحملني قدماي، في غيظ مكظوم وألم صامت. ولقيت في المدرسة بعض رفقائي في الرحلة المشئومة؛ فأكَّدنا ما تعاهدنا عليه أمس من كتمان ما كان. . .
وسألني ناظر المدرسة عن بعض ما ينكر من حالي فتعّللتُ بعلة، وسأل زميليّ فما أخطأ الاعتذار!
وتحدثت إلى سائر زملائي في مدارسهم بالمسرة لأطمئن عليهم فأجابوني. وانتصف النهار، وإذا داعِ يدعوني من حجرة الدراسة إلى لقاء جماعة من الُّزوَّار، فذهبت إليهم حيث كانوا فإذا عمدة القرية وجماعة من حاشيته وبينهم زميلاي وناظر المدرسة، وابتسمتُ وابتسموا، وقال العمدة:(لقد جئت لأكرر اعتذاري وأسألكم الصفح!)
ونال مني الغيظ، فقلت:(لقد كنت صفحتُ أمس، أما اليوم فلا، مادمتم أذعتموها بعد كتمان!) ولم أستطع أن أغالب الضحك جواباً على فكاهة رائقة من ناظر المدرسة. وعاد العمدة الغبي يقول:(لقد مررت بإخوانك جميعاً فاعتذرت إليهم في مدارسهم. إنني منذ الصباح أطوف المدينة على قدميّ ألتمس الوسيلة إلى رضاكم؛ ولكنى لم أذهب بعد إلى الأستاذ فلان المدرس بالمعهد الديني، وهاأنذا ذاهب إليه!)
قلت:(فلان المدرس بالمعهد الديني؟ حسبك معذرةً؛ سأنوب عنك في الاعتذار إليه، وقد صفحتُ وصفح إخواني!)
وما جاء المساء، حتى كان الخبر على كل لسان في المدينة؛ فقائل:(أخزاهم الله؛ لقد انكشف مستور هم!) وآخر يعقّب: (يا شيخ؛ حسبهم ما نالهم!)
ولقيت الرافعي بعدها فقال لي شامتاً: (. . . هو ذلك. إن الشر ليتربص بالمسلم الذي