وجدتا في محمد علي رجلاً لا كالرجال يمد سلطانه لا يفقد ذلك السلطان، فاكتف أولاهما بالسعي إلى تحطيمه، وفرحت الثانية بمصاحبته.
وجاء عهد إسماعيل، وفتحت قناة السويس، وازداد مركز مصر بذلك خطراً، فنصبت كل من الدولتين شباكها وعولت كل منهما أن تسيطر على مصر من طريق المال أولاً ثم من طريق التدخل السياسي ثانياً.
وراح إسماعيل يستدين ويسرف في الاستدانة حتى تراكمتِ على مصر الديون. ولما أرادت مصر أن تجد لمشكلتها المالية حلاَّ سنحت الفرصة لإنجلترا فراحت تتدخل في شئون مصر وتتربص بها الدوائر.
وما هي إلا سنوات معدودة ثم منيت البلاد بالمراقبة الثنائية، وأصبح أمر داخلها ومنصرفها في أيدي المراقبين الأجنبيين. ثم نظرت مصر فإذا وزير ماليتها إنجليزي، وإذا وزير الأشغال فيها فرنسي، وإذا مصالحها تمتلئ بالموظفين من الأجانب يتمتعون فيها بالمرتبات العالية، وإن أهلها لتثقل كواهلهم الأعباء حتى يضيقوا بالحياة.
واشتدت الضائقة على الأهلين لكثرة ما كانوا يؤدونه من الضرائب؛ وأحس المتعلمون منهم أنهم خرجوا من حكم الخديوي المطلق ليدخلوا في نير الأجانب الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة.
وهبط السيد جمال الدين مصر يبث فيها مبادئه، ويحمل إليها قبسه، وكان جمال ذلك الرجل الذي أطلعه الشرق ليضيفه إلى كواكبه الزهر، يرى أن علة العلل في الشرق المغلوب على أمره أن شعوبه سليبة الإرادة: تحكم على رغمها، وتسخر لحساب الحاكمين؛ ولا مخرج لها إلا أن تعود حرة كما كانت من قبل حرة؛ ولن يكون هذا إلا أن تقوم الشورى مكان الاستبداد وأن ينسخ نور العلم ما تراكم في الشرق من ظلمات بعضها فوق بعض.
وكانت التربة في مصر صالحة لبذوره فنمت نمواً سريعاً يحمل على الدهشة؛ فما أسرع ما ظهرت في البلاد حركة وطنية كأعظم وأجمل ما تكون الحركات القومية؛ وراح تلاميذ جمال يذيعون في البلاد مبادئه. يقول في ذلك الشيخ محمد عبدة أنبغ تلاميذه وأحبهم إليه: (وكان طلبة العلم - طلبة جمال الدين - ينتقلون بما يكتبونه من تلك المعارف إلى بلادهم أيام البطالة، والزائرون يذهبون بما ينالونه إلى أحيائهم، فاستيقظت مشاعر، وانتبهت