وقد عشت مختنق الحواس في المدن، لا أرى إلا حجارة ميتة موضوعة بهندسة الإنسان، ولا أرى من الطبيعة إلا قطعة من السماء في سمت شارع أو من نافذة دار. وهيهات كان تيقظي إليها. . .
وكنت لا أتذكر الطبيعة إلا برؤية شجرات في الشوارع تكاد تنكر وجودها في هذه الأماكن الصناعية، وتكاد عيني تحسبها صنعة إنسانية كالأثاث في وجهات الحوانيت، وكنت أزور الطبيعة المكشوفة التي في خارج أرياض المدن كما يزور السائح الأمريكي متحفاً للآثار في الشرق. . .
وحقاً استحالت الطبيعة البكر المكشوفة كمتاحف للآثار التي كان يستعملها أجدادنا وصارت لانقطاعنا عنها غريبة علينا. وصرنا لا نرى مشاهدها إلا من عدسة التصوير أو من ريشة فنان أو ألفاظ قصيدة. . .
ثم قصر الناس صلاتهم على الأنصاب والهياكل والأماكن المظلمة الضيقة التي لا يرون فيها إلا أجسادهم، وتركوا المحاريب التي بناها رب الحياة بيده هو لعبادته بالفكر والقلب. . .
تركوا المعبد المفروش بالأعشاب والرمال، المسقوف بالمصابيح الزهراء، القائم على جدران من سامقات الجبال وأعمدة من بواسق النخيل وفارعات السرو، المغسول بشعاع الشمس والقمر؛ وكأنهم بنوا معابدهم لتحمي أجسادهم من فيضه وفيض طبيعته، وتركوا قلوبهم تختنق فيها بالبخور والعطور والأصوات الفردية التقليدية
أما أنا. . . فورب الحياة لأعبدنه في الطبيعة تحت الهواطل والصواعق، في حرارة الهواجر وبرودة الأسحار، في وضوح النهار وانبهام الليل، في جمرات الظهيرة وفحمات العَتمَة، ولو طارت بي الريح. . . ولو وقع عليّ سقف الدنيا!
ولأُنادينَّ على اسمه: الصلاة جامعة أيتها الأحياء. . . إلى الإحساس بالحياة ورب الحياة. . . قومي مصطفة في أماكنك المحدودة الموزونة. . .
فيسجد كل كائن في مكانه ويسجد قلبي معه. . .
وسأعود إلى أحضان الطبيعة أغني في أذنها كطفل يغني في أذن أمه ويدفعه قلبه العاشق