التي لا تستند إليهما، بل الفلسفة كلها (عدا الفلسفة اليونانية وفلسفة ابن رشد المأخوذة عنها) حجر عثرة في سبيل تقدم العلم، وهو - أي العالم - لم ينهض نهضته العظيمة الحالية إلا حينما تحرر من تلك المذاهب القديمة وأساليبها العقيمة البالية ووقف أمام الطبيعة يستقصي منها رأساً النواميس التي تدير الكون بأسره بما فيه كرتنا الأرضية المتواضعة، وما عليها من ظواهر ومواد متنوعة، منها الكائنات الحية والبشر وخواصها وتفاعلاتها وطبائعها منفردة ومجتمعةً
لهذا رأيت أن أبين هنا رأي علم البيولوجيا في الأخلاق باعتبارها ظاهرة طبيعية قائمة في الإنسان وفي الحيوانات الاجتماعية الأخرى كالنمل وغيره
وفي الوقت نفسه سيأتي هذا البحث مكملاً لما جاء في المقالات الأخيرة التي نشرناها على صفحات الرسالة عن وحدة الكائنات الحية (بما فيها الإنسان) والجمادات واشتقاق الأولى من الثانية وكيف أنه لا يدير الأحياء ولا يعمل فيها إلا النواميس الطبيعية، وأن جميع ظواهر الحياة حتى التفكير والغرائز (ومنها الغريزة الأخلاقية التي سيأتي الكلام عليها) والقوى العقلية على العموم ليس لها إلا مصدر واحد وهو الغذاء أو بالأحرى الطاقة الكيميائية الكامنة في مادة الغذاء كما شرحنا ذلك كله بالتفصيل في مقالاتنا الأخيرة.
الحياة الاجتماعية منشأ الغريزة الأخلاقية
كان أجدادنا البعيدون اللذين تسلسلنا منهم يعيشون فرادى في الغابات يتسلقون أشجارها ليقتاتوا ثمارها، ثم في المغاور والكهوف في العصر الجليدي الذي دام نحو مائة ألف سنة، فكان الواحد منهم عرضة لجميع أنواع المهالك كهجمات الحيوانات المفترسة لا يستطيع أن يردها بمفرده، كما أنه كان يعجز عن القيام بالصعب من الأعمال في سبيل الحصول على غذائه كصيد فريسة كبيرة مثلاً، أو في سبيل تهيئة مأوى صالح له
ولكنهم لحظوا، مع مرور الزمن، أنه كلما سار فريق منهم مجتمعاً سهل عليه التغلب على العدو المهاجم واستطاع القيام بالأعمال التي لا يقوى عليها الواحد منهم منفرداً
وهكذا دلتهم خبرتهم شيئاً فشيئاً مدة ألوف السنين على أن بقاءهم مجتمعين أجدى عليهم وأصلح. وهذا هو منشأ الحياة الاجتماعية وأول صورة من صورها
غير أن اجتماعاتهم هذه كانت في بادئ الأمر قصيرة الأجل لأن الواحد كان يبطش بالآخر