للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

كلما سنحت له الفرصة ليستولي عنوة أو خلسة على إناثه أو ما يكون قد حصل عليه من فريسة أو غذاء أو مأوى أمين، فلا تطيق الجماعة الحياة المشتركة، ولا يلبث أفرادها حتى يتفرقوا تخلصاً من اعتداء بعضهم على بعض. وحينئذ يشعر كل منهم بضعفه وهو منفرد أمام الأخطار التي تهدد حياته في كل حين وأمام الصعوبات التي يلاقيها في سبيل الحصول على غذائه

وهنا تدعوهم الظروف الطارئة مرة أخرى إلى مقاومة عدو قويّ أو زحزحة صخرة ضخمة، أو مهاجمة فريسة كبيرة، ثم يتشتتون، ثم يجتمعون، وهكذا. وفي كل مرة يزدادون اقتناعاً - أو بعبارة أصح - يزدادون شعوراً بفوائد الحياة الاجتماعية ومزاياها لكل واحد منهم

وأخيراً فطنوا إلى أنه لا بد لبقائهم مجتمعين من اتباع بعض قواعد كانت في أول الأمر على أبسط صورها مثل احترام حياة الغير وإناثه وملكيته. وهذا هو بدء ظهور الأخلاق بين أفراد النوع الإنساني، وهي كما ترى وليدة المنفعة - منفعة الجماعة وبالتالي منفعة كل فرد منهم على حدة - فمنفعة الجماعة أو الهيئة الاجتماعية هي أساس الأخلاق، فهي التي دعت إليها وحملت الناس على اتباعها والتحلي بها، لأن الحياة الاجتماعية التي اقتنع بنو الإنسان بفوائدها وجنوا ثمارها لا بدّ للمحافظة عليها من احترام حياة الغير وملكيته وغير ذلك من القواعد التي سُمَّيت بالأخلاق، وإلا اضطر كل فرد أن يهرب من غيره فتضيع عليهم تلك المزايا، مزايا الحياة جماعة

وعلى هذا النحو تكوّنت الجماعات القليلة العدد ثم العشائر ثم القبائل ثم الشعوب. وكلما زاد ارتباط الأفراد وعاشوا مجتمعين تقدمت الروح الاجتماعية أو روح التضامن وارتقت الأخلاق واتسعت قواعدها ورسخت أصولها في النفوس إلى أن أصبحت غريزية في الإنسان أو كادت. ذلك لأن كل صفة مكتسبة تصبح غريزةً مع الاستعمال والاعتياد ومع انتقالها بالوراثة من جيل إلى جيل ومن نسل إلى نسل. وهذه هي ماهية الغريزة كما عرفها هربرت سبنسر وإدمون برييه وغيرهما من علماء البسيكولوجيا والبيولوجيا. فإذا درّبنا مثلاً الكلاب العادية على الصيد وفعلنا هذا مع ما يتعاقب من نسلها فإن الأمر ينتهي بنا إلى أن نحصل على نسل من الكلاب يعرف بغريزته أساليب الصيد ومقتضياته بلا أي تدريب.

<<  <  ج:
ص:  >  >>