نخرج من هذا بأن الأديب في مصر هو الأديب في غير مصر وأن رسالته هنا هي بعينها رسالته هناك وكل ما في الأمر إختلاف طرائق التعبير. على أن مهمة أديبنا أشق من مهمة الأديب الغربي لأن الغربيين يعرفون لأديبهم قدره فيبسطون له في الرزق حتى ينصرف إلى الإنتاج الأدبي الصالح بيننا ينكر المصريون أديبهم ويضيقون عليه الخناق وهم إن اعترفوا له بشيء فإنما يكون هذا الاعتراف بعد أن يفارق هذه الدنيا. ولهذا دون شك أثره البالغ في خلق الأديب فهو أما أن يتزلف إلى السلطات الحاكمة أو يترضى الأمراء والزعماء فإذا لم يستطع هذا أو ذاك أخذ يتملق الجمهور! ولا تتهمني بالمبالغة فأمامك تاريخنا الأدبي الحديث فهو حافل بأسماء الأدباء (وأشباه الأدباء) الذين كانوا أقرب إلى المتسولين منهم إلى أي شيء آخر. والذين انحطوا بصناعة الشعر والنثر إلى الدرك الأسفل حتى أصبح الأدب نوعا من (البهلوانية) في التعبير فإذا ألحت عليهم الحقيقة أتخذوا في إذاعتها فنون اللف والدوران والمواربة! وما أقل أولئك الذين عافت نفوسهم التمسح بأذيال السادة أو التعلق بأردان الجماهير! والأديب (بل وشبه الأديب) معذور لأن الجماعة لا تريد إلا من يسليها ويدخل السرور عليها أما الذي يكشف لها عن المثل العليا ويظهرها على الفرق بين حاضرها وهذه المثل فهو أبغض الناس إليها!
والأديب المصري الذي يريد أن يؤدي رسالته على الوجه الأكمل يصطدم بعقبتين كلتاهما صعبة شديدة. فما بالك إذا علمت أنهما متآخيتان، هاتان العقبتان هما (السياسة والتقاليد).
أما السياسة فقد طغت علينا وأفسدت مزاجنا الأدبي حتى اضطربت موازين النقد في أيدي الكتاب ورجال التعليم يجورون في أحكامهم على الأدباء جوراً ظاهراً: والطلاب والقراء في حيرة ليس مثلها حيرة. وأسرفت السياسة في طغيانها اشتدت جنايتها على الأدب حتى أنصرف الأدباء إلى السياسة وأدركوا أن الشهرة الأدبية لن تأتيهم إلا على حساب الشهرة السياسية!
والتقاليد أمرها غريب حقاً فهي من محاربتها للأدب والأدباء تتستر وراء الدين حيناً ووراء السياسة حيناً آخر. تظهر مرة وتختفي مرات. وويل للأديب الذي يتهم بالإلحاد. وويل للأديب الذي يتهم بالخيانة. وويل للأديب الذي يتهم بالإباحية! لو كان موظفاً طرد من