على أن ما يعنينا فيما نحن بصدده أن هذا الحادث قد أدى إلى ذيوع صيت عرابي على نحو لم يسبق لفلاح غيره في مصر، فسرعان ما دار اسم ذلك الفلاح على كل لسان في القاهرة وسمع بذلك الاسم الأجانب ومن لم يكن يعرفه من المصريين؛ ولم يقف الأمر عند القاهرة بل لقد رن هذا الاسم في القرى فأفاق على رنينه الساحر أولئك الأعيان والمشايخ الذين تعودوا منذ القدم أن يخضعوا خضوعاً مطلقاً للترك والجركس، الذين كانوا ينظرون إلى الفلاحين نظرتهم إلى دوابهم
وعجب أولئك الفلاحون أن يجرؤ رجل منهم على تحدي الخديوي والرؤساء الجراكسة، فتعلقوا بهذا الرجل ولم يروه، ورغب كثير منهم في رؤيته، فقدموا إلى القاهرة يحملون إليه الهدايا ويعربون له عن محبتهم وإخلاصهم وإعجابهم بمبادئه التي تدور حول إنصاف الفلاحين في الجيش، وراح هو يخطب فيهم شاكراً مطمئناً
وليت شعري ماذا تكون الزعامة إذا لم تكن هذه زعامة؟ ألسنا نرى الآن في عرابي شخصيتين: شخصية الضابط الذي يسير في مطالب الجيش على رأس الجند، ثم شخصية الفلاح الزعيم الذي بدأ الفلاحون به يرفعون رؤوسهم وقد خفضوها من قبل أجيالاً طويلة؟ إني لألمس في تلك الصحوة فجر عصر جديد للقومية المصرية، كان عرابي أول مؤذن أذن به، ألمس ذلك الفجر الذي سوف يسفر صباحه عما قريب على صيحة فلاح آخر سوف يبرز من القرى كما برز عرابي، هو سعد بن مصر العظيم مفخرة أجيالها ورأس رجالها
ولئن كان جمال قد أيقظ الغافين في المدن، لقد بعث عرابي بإقدامه أهل القرى من مراقدهم، فإن عمله هذا أوحى إليهم أن من الممكن أن يخرج من بينهم من يشمخ برأسه على أولئك الجركس الذين طالما استذلوا في مصر الرقاب!
ويعنينا كذلك من حادث قصر النيل أمر آخر لا يقل عن ذلك أهمية، ألا وهو التفات الوطنيين إلى عرابي، فعند هذه النقطة التقت الحركتان الوطنية والعسكرية فتولدت من التقائهما الثورة العرابية في أصح مظاهرها وأصدقها
رأى الوطنيون ما أصاب رجال الجند من ظفر سريع، بينما قد لحقهم هَم الفشل، واستطاع