والواحد من هؤلاء الممثلين الموهوبين يتلقف دوره فيبدأ أولاً في تقليب ذاكرته والبحث فيها عمن مروا به في حياته من الناس الذين يشبهون صاحب هذا الدور الذي عهد إليه بتمثيله. فإذا عثر في ذاكرته على هذا الشبيه المطلوب فقد عثر على كنز. لأنه لن يحتاج في إخراج الدور الجديد إلا أن يتقمص روح هذا الشبيه، وأن يلاشي نفسه أثناء تمثيل الدور، وأن يُحل محلها نفس ذلك الذي بحث عنه ذاكرته واهتدى إليه. فإذا تم له هذا التقمص، فإنه سيكون على المسرح - أو أمام الكامرا - صورة هي أقرب الصور إلى هذه الصورة الأصلية الطبيعية. فإذا كان المؤلف قد أسعده بالتطابق التام بين الصورة المرسومة في الرواية والدور، وبين الصورة الأصلية الطبيعية، فإن الممثل الموهوب لن يبذل من الجهد أكثر من هذا التقمص الذي ذكرناه، وهو بعد ذلك يستولي عليه منذ أن يصطنعه إحساس يشابه تمام المشابهة الإحساس الذي ترتكز عليه الصورة الطبيعية الأصلية في كيانها. فهو يتكلم كما تتكلم ويشير كما تشير، ويمشي كما تمشي، ويجلس كما تجلس، ويغضب كما تغضب، ويسأل كما تسأل، ويحب كما تحب، ويعلن حبه كما تعلن حبها، ويكره كما تكره، ويعلن كراهيته كما تعلن كراهيتها. . . فهو أولاً وأخيراً قد فَنِيَّ في هذه الصورة التي يمثلها، وهو لا يفيق منها إلا إذا غادر المسرح. بل إن من الممثلين الموهوبين مَن يتلاشون في أدوارهم تلاشياً فلا يستطيعون أن يستعيدوا طبيعتهم إلا بعد أن يفرغوا من تمثيل الدور الذي يستغرقون في تمثيله هذا الاستغراق. ولعل الهواة يلحظون أن علي الكسار قد استحال بربرياً من كثرة تمثيله لدور البربري. ولعل منهم من سمع (عزيز عيد) وهو يقول إنه عاش مدة طويلة من الزمن خليفة للمسلمين أيام كان يمثل دور السلطان عبد الحميد
وهذه الصورة الطبيعية، أو هذه النماذج الإنسانية الأصلية الصحيحة هي مراجع الممثل الفنان، وبها تحصى ثروته الفنية. فما دام قد شاهد منها صوراً كثيرة، وما دام قد تمكن من دراسة هذه الصور، وما دام قد درب نفسه على التبطل التام ليحل محلها صوراً من نفوسها بالتقمص والانصهار والتحول، فهو إذن ممثل غني قادر متمكن
وهذه الصور تستلزم وقتاً طويلاً من الحياة يبذله في معاشرة الناس وفي دراستهم، ولا يمكن