وكان أحدنا يعزف على الأرمونيكا فيسود أنينها ما حولنا من أجواء عافية نحشد عليها تذكاراتنا وآمالنا
وشعرت بيد ناعمة الملمس تمر على جبيني وسمعت صوتاً مرتجفاً حسبته في غمرات تذكاري صوت أمي الشيخة العليلة تناديني من بعيد قائلة:
- مسكين، الولد الصغير
والتفت فرأيت ولداً لا يتجاوز الخامسة من عمره يلبس جلباباً واسعاً وقبعة صغيرة وكان يحدق بالنار وعيناه السوداوان تلتمعان وهو يكرر قوله:
- مسكين، الولد الصغير!
فهتف الرفاق: آه! هذا فرنسي صغير.
وتقدم جندي شيخ إلى الطفل فرفعه وأجلسه على ركبتيه، وبدأ يلاطفه ويلاعبه فزالت سحابة الخوف عن سحنة الطفل فإذا هو يضحك ويلعب.
وجاء وقت تناول الطعام فقدم الجنود له شيئاً من البطاطس، وجرعوه قليلاً من القهوة وكنت الفائز باكتساب ثقته إذ قدمت له قطعة من الحلوى وكلمته بلغته فقال لي: إن أباه ذهب إلى الحرب، وإن أمه ماتت منذ شهور. وكنت أترجم للرفاق حديثه، وهو يورده بلغته، ويدس في كلامه بعض ألفاظ ألمانية علقت بذاكرته منذ احتل الألمان مقاطعته؛ وقال إن اسمه أميل بوفيه فأسميناه كوكو الصغير.
ولما حان وقت انصرافنا إلى مضاجعنا تمسك الطفل بي طالباً أن ينام معنا فحملته وذهبت به إلى بيته.
وعندما اجتمع الجنود في اليوم التالي رأيت الطفل يدخل في حلقتنا مفتشاً عني وهو يقول: كوكو الصغير.
وما كان وجود القائد بيننا ليمنع كوكو من القيام بحركاته، وألعابه وعندما ذهبنا إلى ضاحية القرية لإجراء التمرينات العسكرية لحق بنا حتى آخر حدودها.
وكان كوكو يباكرنا كل يوم فيقف مسلماً برفع قبعته ثم يبادر إلىّ ويمسك بيدي ليتبعني، وأنا أمشي مع الفرقة. وبعد العودة من التمرين كان الطفل يدخل معي إلى مرقد الجنود ويلتف بطرف دثاري مستسلماً للكرى. وهكذا أصبح هذا الطفل يلازمني ملازمة خيالي؟ وما منعه