للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ورد عرابي بقوله إن الأمة أنابت الجيش عنها. ثم وجه نظر محدته إلى الجموع المتراصة خلف الجند قائلاً هذه هي الأمة وما الجيش إلا جزء منها

فراح ذلك الإنجليزي يتهدد ويتوعد في فضول مخجل، ورد عرابي على ذلك بأنه لن يسمح لأحد بالتدخل في شؤون مصر الداخلية. وهنا سأل كوكش محدثه سؤالاً يتجلى فيه خبثه وقد ظن أنه به أحكم الرمية فقال: (وماذا تفعل إذا لم تجب إلى ما تطلب؟) فانظر إلى رد هذا الجندي في هذا الموقف الذي تخف فيه أحلام الرجال والذي تزدهي القوة فيه القلوب فتسلب ذوي العقول اتزان عقولهم! أنظر إلى عرابي في موقف الثورة يقول له: إنها كلمة لا أقولها إلا عند اليأس والقنوط)

وأخذ كوكش يروح ويغدو بين عرابي والخديو حتى جاءه آخر مرة ينبئه بقبول الخديو إسقاط الوزارة القائمة وأن سموه سينظر في بقية الطلبات فلا بد في بعضها من مشاورة السلطان؛ وقبل عرابي ذلك. فعرض الخديو على الجيش اسم حيدر باشا لرياسة الوزارة القادمة ولكنهم رفضوه؛ وجرى على الألسن أسم شريف، فعاد كوكش بعد حين يعلن إلى عرابي الخديو تعيين شريف باشا فقوبل ذلك بالهتاف بحياة الخديو. والتمس عرابي الإذن على الخديو، فلما وقف بين يديه أخذ يعبر له عن ولائه وولاء الجيش. وذكر له الخديو أنه وافق (على تلك الطلبات بنية صافية)؛ ثم انصرف الجيش بعد ذلك في هدوء كل فرقة إلى مركزها

هذا هو يوم عابدين الذي اعتبره خصوم عرابي من أكبر سيئاته، والذي نعتبره في غير مغالاة أكبر حسناته. وليت شعري كيف يغفل هؤلاء عما ينطوي عليه هذا الموقف من معان؟ إلا إنهم ليتغافلون ليطعنوا الرجل في أجمل مواقفه وأعظم خطواته، وهم إنما ينالون بذلك من أنفسهم دون أن ينالوا منه

طالب عرابي بالدستور فكان في طلبه هذا زعيم ثورة تقوم على أجل المبادئ التي شاعت في القرن التاسع عشر والتي اعتبرها المؤرخون والناس من أعظم خطوات البشرية وأجلها نحو الرقي والكمال فكيف يكون مع ذلك داعية فوضى واضطراب؟ ولقد كثرت في أوربا المواقف الشبيهة في معناها بهذا الموقف فسجلتها الشعوب في ثبت مفاخرها واعتبرتها من أيامها المشهودة التي سوف تمجد إلى الأبد ذكراها

<<  <  ج:
ص:  >  >>