وكثير من الناس كذلك تدفعه العاطفة الإنسانية أو الرابطة الأخوية، رابطة الدم والوطن، إلى إجابة (السائل) أو مساعدة (جامع أعقاب السجائر) أو على الأقل إلى تأثره لحال (ابن الشارع) على العموم غير ناظر إلى ما يأتيه من أعمال لا تتناسب مع مظهر الجماعة المهذبة من البشر، بل بالعكس هو لا يرى فيها جرماً اجتماعياً ولا خلقياً من جانب فاعلها لأنه مرغم على فعلها، ليس من مرغم له - في نظره - غير حكومته.
فليست غاية الحكومة - في رأي هذا الأخير - فرض الضرائب وجمعها، ثم توزيع ما جمع منها على جماعة من أفراد الأمة، وهي طائفة من الموظفين كان المبدأ الحزبي أو العصبية والمحسوبية أساس اختيارها؛ لأن هذا معناه استغلال فئة خاصة لثروة الشعب من طريق هو أميل إلى الخداع منه إلى تعويضه عن ذلك بعمل إيجابي. وإنما غاية كل حكومة رعاية المصلحة العامة وضمانها لكل فرد سبل العيش بتنظيمها ثروة الأمة، وإنتاج الشعب، ولها مقابل ذلك طاعته لما تفرضه عليه من قوانين أو التزامات، وعلى مقدار تهذيبها للفرد وعنايتها به تكون درجة إنتاجه الذي هو جزء من الإنتاج الشعبي العام.
رأيان إذاً في تكييف هذه الظاهرة الاجتماعية وشرحها، وبينهما فرق كبير. فابن الشارع إما مذنب في نظر العرف الاجتماعي أو على حسب مقياس أخلاق الجماعة، وإما بريء لأنه بعمله هذا قد استخدم حقه الطبيعي، وهو رعاية نفسه بنفسه حفظاً لبقائه بعد تحلله من رابطة الجماعة تحللاً نفسياً، لأنه شعر ووقر في نفسه كذلك عدم فائدة تلك الرابطة له. فليس ما يأتيه إذاً من إزعاج الغير وتجاوز الغاية المعروفة من الطرقات والميادين العامة منكراً؛ وإن جاز أن يعده قانون الجماعة منكراً، ولكنه اصبح لا يعترف به.
قد يكون هذا شرحاً لتلك الظاهرة من الوجهة الخلقية. وهو أيضا له أثره في الناحية القانونية. فالذي يرى براءة ابن الشارع هذا لا يعترف نفسياً بعقوبة القانون الذي يحاكمه على مباشرته لعمله (الطبيعي) وإن كان يتقبلها على أنها ظلم حل به.
وعلى ممر الأيام سيعتقد بما آمن به بعض قدماء الإغريق من أن (القانون الوضعي جعل لرعاية المصالح الذاتية، مصالح الولاة والحكام، مصالح الأقلية القوية الحاكمة ضد الرعية التي هي أكثرية ضعيفة). وإذاً فعقاب (ابن الشارع) على ما يأتيه مما ظاهره منكر من جانب واحد وهو جانب العرف الاجتماعي اضطهاد لوجوده أو هو عمل على فنائه.