للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

حجاباً دون النغم. فها هي ذي الأوبرات الإيطالية تستبقي ألحانها وأنغامها كما صاغها ملحنوها ويستبدل بنظمها نظم إنجليزي في إنجلترا وفرنسي في فرنسا وألماني في ألمانيا فلا ينفر الإنجليز ولا الفرنسيون ولا الألمان من الموسيقى الإيطالية في هذه الأوبرات مثلما ينفر أهل الصعيد من الموسيقى القاهرية. . . فهل يدل هذا على شيء أكثر من أن اعوجاجاً أصاب الذوق الفني في القاهرة فخرج به على الطبع المصري إذا أراد التجديد؟ أولا يدل على هذا على أن أصحاب التجديد قد انخدعوا في تجديدهم إذ أرادوا أن يلاحقوا به تجديد سيد درويش وهم لا يذكرون أن موسيقاه كانت رجعة إلى الطبيعة الإنسانية وصحوة ارتجفت بها الروح المصرية. والدليل على ذلك أن الحالة التي صور بها بيئات المصريين كانت تعبيراً صحيحاً صادقاً عن النفس المصرية فراجت بين المصريين رواجاً رائعاً، ومنها ما لا يزال يطن في الأذن إلى اليوم مثل (طلعت يا محله نورها شمس الشموسة) و (مليحة جوى الجلل الجناوي) و (يا ولد عمي يا بوي) و (يا صلاة أم إسماعيل في وسط عيالها). . .

ويحق علينا ما دمنا نرمى إلى إحقاق الحق أن ننصف الموسيقيين المصريين فنقرر أن الأصوات الطبيعية التي يمكن أن تنقل عن البيئة المصرية الطبيعية قليلة، فليس في مصر زوابع ولا أعاصير ولا أمطار ولا رياح ولا غابات تصفر فيها الريح وتزأر فيها الأسود، ولا شيء من هذا الذي تنعم به البيئات الأخرى، ولكن ليس معنى هذا أن بيئتنا المصرية مجدبة مما يوحي الموسيقى، فإن في هدوئها وتخافت أصواتها ورهبتها وجمالها وخفتها وجلالها، وما في مجتمعها وتاريخها وآمالها ما يصلح لتأليف أنصع الموضوعات الموسيقية المنشودة. لا يتوقف ذلك إلا على شعور الموسيقيين المصريين ببيئتهم المصرية وما فيها.

نحن الآن مع الأدباء أمام الحياة المصرية. وللأدب في مصر مشكلتان لا مشكلة واحدة: أولهما مشكلة (الموضوع) التي تعرضنا لها في الرسم والموسيقى، وأخراهما مشكلة (اللغة) فنحن في مصر نتكلم لغة ونكتب أخرى. ولغتنا على تقاربهما الشديد مختلفان لا يمكن أن ينكر اختلافهما إنسان. وعلى أساس ما قررناه كان أقرب الأدب إلى طبع المصري هو أقربه إلى لهجته وكلامه إذا عالج موضوعات من حياته كما يفعل الأديب المصري الصادق محمود بيرم التونسي، فأدبه مستخلص من الحياة المصرية ومؤدى باللسان المصري.

<<  <  ج:
ص:  >  >>