الشائعات طافت بأهل باريس أن الملك أخذ يستعد ويجمع حوله الجند، فما لبثت أن جرت الدماء في باريس ودك الناس الباستيل رمز العبودية والجبروت؛ ثم رأى أهل باريس بين الدهشة من الملك والزراية عليه والتهزئ به أنه يركب في جماعة من النواب كان في مقدمتهم ميرابو فيزور باريس ويطوف بأنحائها ويمر بخرائب الباستيل مظهراً عطفه على الثورة والثوار، ولكنه يعود بعد ذلك فيأتي من معاني التحدي والنزق ما يجعل الشعب يذهب فيقتحم عليه غرف قصره في فرساي ويعود إلى باريس ليكون رهينة فيها، ويتم الدستور فيرفع إليه فيوافق عليه ولكن ريثما يعد العدة للهرب، ثم يضبط المسكين وقد أوشك أن يجتاز الحدود فيقضي هذا العمل عليه وتمضي الثورة في طريقها مجنونة لا تلوي على شيء حتى تأكل آخر الأمر نفسها
ولقد كان توفيق يسلك تجاه الثورة العرابية مسلك لويس تجاه الثورة الفرنسية مع فارق واحد وهو أن الخديو، كان من ورائه الإنجليز فلما لجأ إليهم توفيق كما هرب لويس لم يقض هذا العمل عليه وإنما قضى على البلاد
تخلص توفيق من رياض وقد كان يسعى إلى التخلص منه، فكيف أراد أن يسلك شريف مسلك رياض ولقد كان الفرق بين الرجلين هو الفرق بين الاستبداد والديمقراطية؟
لقد عادت الظروف من جديد تبين للخديو بأجلى وضوح أن الطريق الوحيدة هي الانضمام إلى الحركة الوطنية ومشايعتها في صدق وإخلاص، ففي ذلك منجاته من تطرف هذه الحركة وجموحها، وفي ذلك منجاة البلاد من تدخل الأجانب باسم المحافظة على عرش الخديو، ثم من احتلال البلاد باسم القضاء على الفتن والقلاقل
ولكن الخديو تنكب هذه الطريق فدفع تيار الثورة بمسلكه هذا كما كان لويس يدفع تيار الثورة في بلاده. ولقد رأينا كيف آنس الثوار في أنفسهم القوة منذ انضم العساكر إلى الحركة، وكيف فهم الزعماء انهم حصلوا على ما حصلوا عليه عن طريق الإرهاب والقوة، بعد أن عجزوا عن ذلك عن طريق المسالمة والرجاء
ومن عجيب الأمور انه لما انتهت الثورة إلى ما انتهت إليه حمل زعماؤها كل أوزارها وخرج عرابي المسكين بالنصيب الأوفى من هذه الأوزار؛ مع أن الحوادث تثبت عكس ذلك، وهي لو درست على حقيقتها وردت فيها الأمور إلى أصولها لرد ما يعزى إلى