وصلت مصر إلى ما وصلت اليه؛ فلم يفد من وراء ذلك أية فائدة شخصية. ولو كان في نفسه يومئذ أطماع من هذا القبيل لرأيناه يصل على الأقل إلى مرتبة الوزير، ونقول على الأقل لأنه كان في موقف تحكم فيه من الخديو وفرض عليه الشخص الذي يؤلف الوزارة، وهو موقف يوحي إلى الأنفس الغرور، فلو خالج نفس عرابي يومئذ طمع في جاه أو منصب لما وقف دونه إلى ما يبتغي حائل
ولقد اتصل بعرابي في منصبه الجديد المستر بلنت وطلب صداقته فأجاب عرابي في سرور إلى ما طلب وتصافحا. ولسوف تتمكن بينهما الصداقة وتتوثق عرى المودة سنين طويلة بعد ذلك
وجرى بين عرابي وبلنت في هذا اللقاء حديث أثبته كل منهما في مذكراته وفيه أشار عرابي إلى ارتياحه إلى تخلص مصر من مساوئ حكم إسماعيل ومن دسائس الجراكسة، ولكنه أبدى مخاوفه من سياسة إنجلترا وفرنسا نحو مصر، وعبر عن أمله في أن تعطف إنجلترا على حركة الحرية في مصر وهي الدولة التي تقدر الحرية، وكان عرابي يتوقع العطف من إنجلترا أكثر مما يتوقعه من فرنسا ولا سيما من جانب المستر غلادستون الذي اشتهر بعطفه على الحرية في كل مكان
وليت شعري ماذا يطلب الذين يرمون عرابياً بالطمع والجهل والنزق، أكثر من هذه البراهين التي نسوقها على أنه كان بريئاً من هذا كله؟ ألم يأن لهؤلاء أن يقرءوا سيرة هذا الرجل في غير تحامل عليه حتى يعرفوا لهذا المصري المجاهد قدره وأثره في نهضتهم القومية؟ وهل يوجد في المعايب القومية عيب هو أشد قبحاً من جهل قوم برجالهم في الوقت الذي يرون غيرهم يمجدون ذكرى رجالهم فيوحون إلى الأجيال القادمة معاني الرجولة بما يقدمون لهم من الأمثلة؟
لقد أعجب بلنت بعرابي ووقعت عباراته من نفسه موقعاً حسناً. يقول بلنت في ذلك:(وكان لهذا اللقاء الأول من حسن الأثر على رأيي في الضابط الفلاح ما حملني على الذهاب في الحال لصديقي الشيخ محمد عبدة لأفضي إليه بحقيقة هذا التأثير)
ولقد بلغ من تأثر بلنت أن اقترح وضع تقرير عما أخبره عرابي به ليرسله إلى المستر غلادستون، ثم اشترك مع الشيخ محمد عبدة في كتابة برنامج الحزب الوطني وأطلعا