للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أن يذكر أن عبده الحامولي كان مغنياً من نوع كاد ينقرض من بين أهل الحرفة اليوم، لا لأن أهل الحرفة قد سمن إحساسهم، وإنما لأن الحياة نفسها استدعت هذا الانقراض، وهي لا تزال تستدعيه.

فقد كان المغنون في الجيل الماضي يغنون في اجتماعات عامة من حيث إقبال الناس عليها، ولكنها كانت خاصة من حيث الأنفاق عليها والدعوة إليها، وكانت الأفراح هي الفرص المتلاحقة التي كان يدعى فيها المغنون إلى الغناء، وكان صاحب (الفرح) هو الذي يختار المغني الذي يدعوه، وكان يرهق نفسه في إكرامه إرهاقاً كانت تستلزمه روح التفاخر التي كانت شائعة في ذلك الحين بين المصريين أغنياء وفقراء، وكان يبذل له العطاء كما كان يتأنق في إعداد المائدة له ولأفراد فرقته؛ فكان يطعمهم طعاماً شهياً خفيفاً حتى يكتفوا، وكان يسقيهم خمراً سائغة مشعشعة حتى ينتشوا؛ وكان يصبر عليهم لا يطالبهم بعزف ولا غناء حتى يستخفهم الطرب، فيعمد منهم صاحب القانون إلى قانونه، وصاحب العود إلى عوده، وصاحب الدف إلى دفه؛ والمغني لا تزال روحه تترنح من الشرب والطرب والبهجة والفرح حتى يطيب له أن ينطلق فينطلق

وكان المغني يصيح وهو يعلم أن بين مستمعيه مغنين ومطربين خفوا إليه ليمتعوا أنفسهم بحلاوة ترتيله وبهاء نشوته. والذين حضروا أمثال هذه الحفلات يروون لنا أن محمد عثمان كان يجري وراء عبده الحامولي ليسمعه، وأن عبده الحامولي كان يلاحق محمد عثمان ليستردّ منه الدين متعة وطرباً، وهم يقولون أيضاً أن محمد عثمان كان يسمع من الحامولي الدور فلا يتحرج من الاستيلاء على نظمه وكلامه فيلحنه تلحيناً جديداً ويغنيه غناء يجبر الحامولي على أن يترك له الدور مسلماً فيه أمره الله ولصناعة محمد عثمان المنظمة المنسقة

وقد كان محمد عثمان يختلف عن الحامولي اختلافاً بيناً. فقد كان الحامولي أقرب إلى الطبيعة من صاحبه، فكان أكثر غنائه ارتجالاً لا يعدُّه ولا يهيئه، وكان صوته الممتاز الحلو النقي، ونفَسه الطويل المشبع، وروحه الصافية المرفرفة. . . كان هذا كله يمكنه من السيطرة على نفوس سامعيه والتحكم فيها والخروج بها من حال إلى حال بما لم يتح بعده إلا لسيد درويش الذي أغناه صدقه وعوضته قوة روحه عن حلاوة الصوت وعذوبته

<<  <  ج:
ص:  >  >>