للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

أما محمد عثمان فكان يربط ألحانه قبل إنشادها، وكان لا ينطلق ولا يتحرر مما ربطه إلا في فترات من ليلته ثم يعود بعد ذلك إلى ما ربطه وقيده. وانقسم المغنون والمطربون في ذلك الحين إلى مدرستين: مدرسة الارتجال التي كان يتزعمها عبده الحامولي وكان من أساطينها محمد سالم العجوز؛ ومدرسة الربط التي كان يتزعمها محمد عثمان وكان من أساطينها يوسف المنيلاوي ثم سيد الصفطي. على أن الربط في ذلك الحين لم يكن مقيداً مكتوفاً كل الكتف وإنما كان - كما تقدم - يفسح للمعنى مجال التصريف والتخليق، متى أتيح له التصرف والتخليق

والذي نريد أن نصل إليه من تقرير هذه الحقائق كلها هو أن مجالات الطرب في الجيل الماضي كانت تعنى بتهيئة جو الغناء للمطرب، فكانت تتملقه بالأجر المغري، وتتزلف إليه بالكأس والطاس، وتحفزه بالتشجيع من جانب المستمعين، والتحدي من جانب المطربين، وهذا كله كان يلهب المغني إلهاباً ويشعل روحه إشعالاً وينقل روحه إلى حال من حالين: فإما نشوة ورضى، وإما ركوداً وغماً. فإذا ما أصابه التوفيق بالنشوة والرضى فقد غنت روحه ورقصت؛ وإذا ما ركد وتخاذل فإنه كثيراً ما كان يعتذر عن الغناء ويتهرب منه. ولا يزال هواة الطرب من المخضرمين يذكرون لنا أن عبده الحامولي كان يفسح في تخته مجالاً لمحمد عثمان ويدعوه إلى الغناء في بعض لياليه، كما انهم يذكرون لنا أن عبد الحي حلمي كان يضرب الغلاظ من مستمعيه أحياناً بطربوشه ويبكي ويصر على إبعادهم عنه وإلا يروغ من (الفرح)

هذا يدل دلالة قاطعة على أن المغنين في الجيل الماضي كانوا يغنون لأنفسهم كما كانوا يغنون للناس، أو إنهم في الحق كانوا يغنون لأنفسهم في مناسبات يهيئها لهم الناس ويدعونهم إليها

ولعله لم يبق في هذا الجيل الذي نعيش فيه من أهل هذا المزاج إلا فئة من المقرئين فهم وحدهم الذين يرتجلون الترتيل، وهم وحدهم الذين (يتفاعلون) مع جمهورهم أثناء إنشادهم وقراءتهم. أما المغنون فكلهم كما نعلم يسترجعون في حفلاتهم ما علمهم إياه الملحنون، وأما الملحنون فكلهم يعدون ألحانهم إعداداً تاماً قبل غنائها أمام الجمهور إذا ما دعوا للغناء أمامه. وليس يشذ عن هذه القاعدة من ملحني اليوم إلا زكريا أحمد ومحمود صبح. فهما وحدهما

<<  <  ج:
ص:  >  >>