ظهور بينات أو أدلة على صدق الواشي، وتتلمس نفسه لنفسه الأعذار عندما تحوِّل الشبهات إلى بَيِّنات تخلصاً من إحراج عظمته بالتفوه بما قيل في حقه. وإذا كان هذا شأن من توجب عليه منزلته السير بالعدل فما ظنك بالكثير من الناس الذين يرى كل لنفسه عظمة مثل تلك العظمة، وإن لم تكن له تلك المنزلة التي تفرض عليه ما تفرض منزلة الأول. والذين يقرءون كل يوم ويسمعون عما يسمى بالطريقة الأمريكية في الاحتيال، فلا تمنعهم قراءتهم عنها من الوقوع في شرك المحتالين، ووسائل تلك الطريقة الأمريكية في الاحتيال أسهل من وسائل الوشاة. فالنفس البشرية تنقاد بالخيال والإحساس وبالرهبة والرغبة أكثر من انقيادها بالعقل والمنطق الصحيح والعدل.
ومما يزيد الوشاية تمكناً من النفوس أن النفوس طبعت على الخوف، فكل نفس تقبل الوشاية لا لأنها اقتنعت بصدقها بل لدرء الشر واتقاء الضر المحتمل، وهي قد تسرع بالإساءة إلى الغائب المنقول عنه إذا وجدت أن إساءتها إليه أسهل من ملاطفته وملاينته، وإنما تريد تعجيزه عن الشر بالإساءة إليه قبل أن يسيء إليها. وهي تُزَكيِّ إساءتها إليه قبل التأكد من صدق الوشاية بأن تعد تلك الإساءة من ضرورات الحياة ومكارهها التي لا مناص منها، والتي تدعو إلى المبادرة بالشر حيطة وحذراً؛ إذ أن البدء بالهجوم والمفاجأة به نصف الظفر والانتصار كما يقولون. وهذا أيضاً من منطق النفوس البشرية وأعني المنطق الخفي لا الذي يدرس في الكتب.
أضف إلى كل هذه الأسباب ما يدعو إلى قبول الوشاية من الرغبة في الأذى، وهي قد تكون رغبة مُلِحَّة وشهوة قاهرة في كثير من النفوس ولا سبب لها إلا التمتع بارتكاب القسوة وعمل الشر وإيلام غيرها وهذه الرغبة في الأذى والمتعة في القسوة لا تعجز عن خلق الأعذار والأسباب والشواهد والأدلة والبينات كي تُزَكيِّ نفسها في التمتع بالقسوة وفي ارتكاب الشر، وصاحب هذه المتعة النفسية في إيلام غيره يُرَحِّبُ بالواشي النمّام كما يرحب العاشق بحبيبه الذي طالت غيبته لأن ذلك الواشي يساعده على خلق الأعذار التي يُزَكيِّ بها رغبته في عمل الشر.