عليه أمور تتمكن من نفسه كلما أجاد وأطال الواشي في مدحه وانتقاص ذلك الغائب. وكيف لا يعد السامع الممدوح الوشايات كرامات وهو يرى مظاهر إخلاص الواشي له وخوفه على جاهه أو سمعته أو حياته أو مكانته ويرى رغبته في صرف الأذى عنه وفي رد كيد أعدائه؟ وقد يصعب في بعض الحالات على الناقل المخلص حقاً الذي إنما يريد بالنقل دفع الشر عن صديقه أن يثبت صدق قوله فيختلط الحابل بالنابل ويضطر السامع أن يقبل من هذا وذاك. على أن الوشاية قد تترك أثراً وخيماً حتى في حالة معرفة السامع كذبها، فإن النفوس البشرية في بعض حالاتها تشك بالرغم من معرفتها ببطلان الشك، وتسيء الظن بالرغم من معرفتها كذب الظن. وهل هذه الحالة أغرب من حالة أشعب الثقفي النفسية، وهو الذي كان يصرف الأطفال عنه فيدعي أن احتفالاً بزواج في حارة مجاورة تُنثَرُ فيه النقود على الناس فرحاً وابتهاجاً فَيسرعُ الأطفال إلى تلك الحارة كي يلتقطوا بعض النقود، وتنخدع نفس أشعب بالقصة التي اخترعها فيعدو خلف الأطفال كي يلتقط أيضاً بعض تلك النقود التي لا وجود لها. على أنه حتى في حالة رفض السامع للوشاية ورفض كل شك في كذبها تراه مهموماً بسبب ما نُقل إليه من الذم أو الرغبة في الأذى لأنه يعد ما نقل إليه قد أنقص من نفسه لدى نفسه وأنقص من اطمئنانه إلى الحياة عامة والى النفوس البشرية فيحسن امتعاضاً وتضايقاً من الغائب الذي نقل الواشي عنه ما لم يقل أو ما لم يفعل لأنه كان سبب ذلك النقل الباطل والوشاية الكاذبة التي آلمته حتى وإن كان سبباً غافلاً عما سببه في نفس الناقل الكاذب ولكن سامع الوشاية المتألم منها بالرغم من تكذيبه لها في سريرة نفسه قد ينقم على ذلك الغائب المكذوب عليه سواء أكان الواشي الكاذب معذوراً أم غير معذور في بغضه له الذي دعاه إلى أن يكذب عليه في وشايته. وهذا أيضاً من منطق النفوس البشرية. ومما يزيد في حنق سامع الوشاية أنها قد تكون مما لا يستطيع ذلك السامع فحصه أو مخاطبة المنقول عنه؛ ولا سيما إذا كان سامع الوشاية عظيماً أو رئيساً فيخشى على رياسته وعظمته أن تبتذل عند التفصيل في كشف الوشاية وفحصها وتحقيقها، ولا سيما إذا كان الغائب المنقول عنه مرءوساً ليس في منزلته؛ فيرى من الانتقاص لنفسه أن يطلعه على ما نقل الواشي إليه لأنه يضطر أن يُحَدِّثهُ بالقول المر الذي قيل عن شخصه، أي شخص العظيم، وهذا فيه إحراج لعظمته فيفضل أن ينتقم من غير بحث ومن غير