قبائل أخرى مسيحية من العرب. غير أنه يظهر أن بعضهم ظل محافظاً على العقيدة القديمة نحواً من قرن ونصف، فلقد روي أن الخليفة المهدي (١٥٨ - ١٦٩) رأى عدداً منهم يسكن قريباً من حلب، فلما علم أنهم مسيحيون غضب وأمر بهم أن يسلموا، وقد أجاب ذلك منهم نحو خمسة آلاف شخص. وقد آثر أحدهم أن يقتل على أن يعتنق الإسلام. وهنا تعوزنا - لتحقيق معظم هذه الروايات - التفاصيل التاريخية التي تشرح لنا زوال المسيحية من بين قبائل العرب المسيحيين الذين عاشوا في شمال الجزيرة. ومن الممكن أن يكونوا قد اندمجوا في العشائر الإسلامية المجاورة، وفي الغالب بطريق التسلل السلمي خفية، وإلا فلو أن المسلمين حاولوا إكراههم على الإسلام بالقوة حينما أصبحوا تحت سلطانهم لما كان من الممكن أن تظل المسيحية حية بينهم إلى عصر الخلفاء العباسيين.
وهاك أهل الحيرة أيضاً فقد قاوموا كل الجهود التي قام بها خالد بن الوليد ليحملهم على قبول الإسلام. وقد كانت هذه المدينة (الحيرة) إحدى المدن الشهيرة في حوادث الجزيرة العربية. وقد حسب ذلك البطل الإسلامي المغوار أن التوسل إلى أهل الحيرة بصلة النسب العربية كاف لحملهم على أن ينضموا إلى اتباع الرسول العربي. ولما بعث سكان المدينة المحاصرة وفداً منهم إلى القائد المسلم ليتفقوا معه على شروط التسليم ويصالحوه سألهم خالد:(من أنتم؟ أعرب؟ فما تنقمون من العرب، أم عجم فما تنقمون من الإنصاف والعدل؟). فقال له عدي، وكان نقيب القوم:(بل عرب عاربة وأخرى مستعربة) فقال خالد: (لو كنتم كما تقولون فلم تحادونا وتكرهوا أمرنا). فقال له عدي:(ليدلك على ما نقول أنه ليس لنا لسان إلا العربية). فقال:(صدقت)، وقال:(اختاروا واحدة من ثلاث: أن تدخلوا في ديننا فلكم ما لنا وعليكم ما علينا؛ إن نهضتم وهاجرتم أو أقمتم في دياركم، أو الجزية، أو المنابذة والمناجزة، فقد والله أتيتكم بقوم هم على الموت أحرص منكم على الحياة). فقال عدي:(بل نعطيك الجزية). فقال خالد:(تبّاً لكم، ويحكم، إن الكفر فلاة مَضلَّة، فأحمق العرب من سلكها فلقيه دليلان: أحدهما عربي فتركه واستدل الأعجمي).
وقد اتخذت كل الوسائل اللازمة لوعظ أولئك الذين اعتنقوا الإسلام حديثاً وإرشادهم وتعليمهم، لأنه كان من الضروري - وقد أخذت القبائل تدخل في دين الله بهذه السرعة - أن يؤخذ الحذر حتى لا يخطئوا في العقيدة أو العبادات والشعائر، كما يخشى هذا طبعاً إذا