وسارت سفينة الحكم بين هذه التيارات المختلفة، تنكر الخديو لقضية الحرية ونشاط المدافعين عن هذه القضية، وتربص الدولتين بالحركة جميعاً.
وكان طبيعياً أن تفيق البلاد على صيحة عرابي، وأن تنطلق النفوس من عقالها، فلقد أتيح للناس قدر من الحرية وهم إليها عطاش تتحرق نفوسهم؛ فبدأ الوطنيون يعبرون عما احتبس في صدورهم منذ عزل إسماعيل، وعادت الصحف تعبر عن مساوئ التدخل الأوربي وتندد بأساليب الدخلاء في مصر الذين سلبوها أقواتها بالحيلة وحالوا بينها وبين أمانيها زمناً بالإرهاب والبطش؛ والذين كان يحتل الكثيرون منهم الوظائف المصرية الخطيرة ويؤجرون على أعمالهم فيها إن كان ثمة لهم فيها من أعمال أجوراً غالية من خزانة مصر الفقيرة.
وأخذت جريدة الطيف، وكان يصدرها عبد الله نديم، تقاوم البهرج الزائف الذي بدأ يلتمع في مصر فيخطف سرابه أبصار الجاهلين، والذي سماه الأوربيون مدنية ليكون لهم منه سلاح من طراز آخر يضيفونه إلى أسلحة الدس والكيد التي سلطوها على البلاد؛ وحمل الكرام الكاتبون على المراقص وحانات الخمور ودور المجون ومواخير الدعارة وغيرها من مباءات الفسوق الذي كان يذيعها في مصر أولئك الذين جعلوا من مبررات تدخلهم في شؤون البلاد رغبتهم في هداية أهلها إلى المدنية!
وكان بيت عرابي قبل أن يعين في منصبه الجديد مقصد الناس من جميع الطبقات والهيئات الوطنيون والأجانب في ذلك سواء؛ وكانت شهرة عرابي تطغى على شهرة جميع الرجال من حوله حتى البارودي وشريف وكان لهما الحكم والجاه؛ والحق لقد اتجهت الأنظار إلى عرابي منذ يوم عابدين وأصبح من المستحيل أن يعتزل السياسة أو تعتزله السياسة، وقد خطا في سبيلها تلك الخطوة الجريئة التي كان النجاح حليفها.
أخذنا على عرابي أنه حينما طلب إليه أن يخرج من القاهرة بفرقته اشترط أن يكون ذلك بعد صدور أمر الخديو بدعوة مجلس شورى النواب، ونعود فنأخذ عليه أنه تدخل في الأساس الذي يجتمع عليه المجلس. فكان شريف يرى أن يكون ذلك وفق لائحة عام ١٨٦٦، أي أول لائحة للمجلس على أن يقوم المجلس بالتعاون مع مجلس الوزراء بوضع