نعم! هذا هو الذي حدث، ولم يحدث شيء غيره، وإنما كل ما كان هو أنهم لم يعرجوا إلى هذه الحقائق بعكازات من عقولهم، وإنما طاروا إليها على أجنحة من إحساسهم. هم أحسوا هذه الحقائق، وبلغوها صادقين، وأعلنوها، وإن كانوا قد عجزوا عن إثباتها لمن لا يريدون أن يفهموا إلا بالعقول!
ومن هذا نرى أن صدق الإحساس يكشف للإنسان ما يستره المستقبل. فهذا الكاتب الذي طير الإنسان على بساط الريح في قصص ألف ليلة وليلة كان يحس أن الإنسان يستطيع أن يطير، هذا إذا لم نقل إنه كان مؤمناً بأن الإنسان سيطير. وهذا (المخرف) الذي حول الرصاص والنحاس إلى ذهب كان مؤمناً بأن هذه المعادن التي يشاهدها ليست إلا مظاهر مختلفة لشيء واحد يمكن إذا عدلت المؤثرات التي تؤثر فيه أن تتعدل الأشكال التي يتشكل بها. كان مؤمناً بهذا وإن لم يكن يعرف أن المادة ذرات، وأن الذرات كهارب، وأن الكهارب إلكترونات إلى آخر هذه الزحمة التي تشغل عقول العلماء. وهذا الهندي الذي اختلق في قصصه كرة من البلور ينظر فيها الإنسان فيعلم الغيب كان يحس أن في الإنسان هذه القوة التي تمكنه من الوقوف على ما يغيب عنه وهو في حالته العادية، ولم يكن يدري أن الإنسان سينوم أخاه تنويماً مغناطيسياً فيسأله عن بعض المحجوب عن عقله، وأنه يستطيع أيضاً أن ينوم نفسه ليصل إلى ما يريد. وهذا (المخرف) الآخر الذي رد الناس في خرافاته قردة كان يحس أن هناك عقداً تنتظم فيه الخلائق متتابعة متسلسلة من حلقة إلى حلقة كل حلقة أرقى من أختها وأشد تعقيداً. . وإن لم يكن قد قرأ كتب داروين.
كل هذه حقائق اهتدى إليها الكتاب بإحساسهم لا بعقولهم فنحن نعلم أن العقل لا يطمئن إلا إلى ما يثبت ثبوتاً صريحاً للعين والأذن والأنف وبقة الحواس المادية.
فإذا سايرنا أهل العلم وقلنا إن عمل العقل هو جمع هذه المدركات الحسية والنفاذ بها بعد توليفها إلى الحقائق الصحيحة، رأينا أهل الفن والحس المرهف أسبق من غيرهم في الوصول إلى هذه الحقائق الصحيحة؛ فنفوسهم تدرك من المحسوسات والمعنويات ما هو قابل لأن ينتظم في سلك واحد بأسرع مما تدرك النفوس المتعقلة المتشككة هذه الدركات نفسها. ولعل هذا هو ما يسميه المتصوفون (العلم اللدني) أي الذي يأتي من لدن الله فيهدي