أما المتصوفون فيقولون إنهم يستطيعون أن يفسروا علمهم هذا، وأما أهل الفنون فهم غالباً يحتاجون إلى نقاد يصفون فنونهم ويفصلون ما فيها من الحق والبلاغة والجمال، فالفنان إذا أضيف إليه ناقده وشارحه كان مجموعهما إنساناً متصوفاً يهتدي إلى الحق بإحساس الفنان، ويضيء السبيل إلى الحق بدراسة الناقد وشرحه.
وقد أشعر بعد هذا التفصيل أن هذه المسألة قد وضحت بحيث أستطيع أن أتركها مطمئناً إلى ناحية أخرى من نواحي الصدق في الفن، فليس كل الصدق الفني متصلاً بالمستقبل، بل إن هذا الصدق المتصل بالمستقبل هو أندر ما يطالعنا به الفن من الصدق، وإنما يتجلى الصدق في الفنون جميعاً إذ تتصدى للحاضر. فهذا الرسام الذي يسجل الخصائص النفسية للشخص الذي يرسمه حين لا يخط بريشته على الورق إلا خطوطاً رآها في وجه الشخص المرسوم فأحس أنها تخفي هذه المعاني التي يعبر عنها بهذه الخطوط. . . وقد يكون عقله في هذا الطواف كله نائماً لا يدرك الصلة بين الخطوط التي يراها على الوجه والتجاعيد الصاعدة والهابطة فيه، وبين هذه الأحاسيس التي يحسها من يرى الرسم وبين هذه الخطوط التي قيدها على القرطاس. . . هذا الرسام من غير شك صادق الحس، صادق التعبير. وهو موفق في فنه ما دام صادقاً في إحساسه صادقاً في تعبيره، فإذا التوى على نفسه وحاول أن يدرس عقله في فنه لم يصب من هذا الدرس غير التعقيد يشوب الفن، والبعد ينحرف به عن الحق.
وهكذا الصدق في الفنون جميعاً - كما رأينا في الأدب والرسم - فهو دائماً عمدتها في الإحساس بالحياة كما أنه عمدتها في التعبير، وبمقدار ما في الفن من صدق يبلغ الفن شأوه الذي تحسده العلوم عليه، فهو الذي يوجه الإنسانية، وهو الذي يحصي لها خيرها ويحصي عليها شرها، هو ضميرها وروحها.
فإذا أراد القارئ أن أضرب له المثل بالموسيقى فناً يلزمه الصدق أيضاً - فقد تكون صلتها بالصدق متسترة - ذكرته بلحن المارسيليز الذي حرر فرنسا، فهو ليس سوى إحساس صادق بالحرية عربد في أنغام اختلفت في نفوس المستعبدين حب الحرية الصادق فعربدوا كما عربد النغم، وتحرروا كما تحررت روح منشده، وقد كان كل فرنسي منشده وراء