والآن فإني أظن القارئ الكريم قد بدأ يستسيغ هذا الذي عرضته عليه. وكم أحب أن يستعيد القارئ التفكير في هذه المسائل حتى تسري من عقله إلى روحه. ثم كم أحب بعد ذلك أن يبحث القارئ في ذاكرته عمن يعرفهم من الفنانين وأن يبحث بفراسته في أحوالهم، وأن يرى مدى الصدق في أعمالهم وأقوالهم، وأن يقيس هذا الصدق بما يصيبونه من التوفيق في فنونهم. ولست أريد بالتوفيق النجاح التجاري الذي يؤدي إلى الغنى المادي، وإنما أقصد به الإصابة الفنية التي يعتز بها الإنسان أمام ربه إذ تحسب في حسناته وإن لم تكن صلاة ولا صوماً لأنها أثر من آثار الصدق ومظهر من مظاهره، والصدق في النية، والأعمال بالنيات.
بالمشاهدة والتجربة يتضح أن أبلغ الفنانين فناً هم أصدقهم فعلاً وقولاً كما أنهم أصدقهم حساً.
وهذا الصدق كما أنه حس، فإنه خلق، وإذا كان لا بد لنا أن نلجأ إلى أسلوب العلماء لنثبت الحق في قولنا فإننا لا نكره أن نردد ما يقوله العلماء من أن كل خلق ينمو في نفس الإنسان بالتدريب والتمرين، والفنان الأمين على فنه المؤمن به الآمن له يوالي هذا التدريب ليل نهار، سواء فيما هو متعلق بفنه من الأعمال والأقوال وفيما لا علاقة له بالفن: ذلك لأن الفنان يكون دائماً من المؤمنين بأنفسهم، لأن نفسه ترزقه الحق وتلهمه إياه والحق من الله، ولو لم يدرك بعقله هذا الإيمان وسره. وهو لذلك يطلق روحه حرة صادقة في كل أعماله وأقواله لا يتكلف ولا يتعمل كما يتكلف ويتعمل بقية الناس، ولا يتلون ولا يتشكل في النهار مرات وفي الليل مرات كما يتلونون ويتشكلون، وإنما هو يتشكل ويتلون تبعاً لأحاسيسه الصادقة لا تبعاً لحكمة العقل الكذوب!
وأحسبني لست في حاجة إلى أن أثبت أن الناس كذابون، والناس كما نعرف عقلاء أو هم عقلاء كما يقولون، وهم الذين يتوهمون بعقولهم أن تصرفات الفنانين في حياتهم الخاصة والعامة تصرفات (شاذة) غير معقولة، وهي في الحق شاذة وغير معقولة عند عقل الخداع والغش، وإن كانت طبيعية ومنطقية أمام حكمة الحق.
والآن ما رأي القارئ في الرجل يوالي الصدق ويواصل التدريب عليه؟ ألا ينمو الصدق