سيدة عقله، وهواه حاكم صوابه. يدخل الأمر نفوسنا ويستأذن في لطف على قلوبنا، فيجد كل أهوائنا توافقه، وكل ميولنا تناصره، فنألف هذا الأمر، ثم نعتقده، ثم من بعد ذلك نتطلب الحجج على أنه الحق. نعتقد صواب شيء، نعتقد أن الجرمانيين سادة الجناس لأننا نحن جرمانيون، أو أن النصرانية أقوم الأديان لأننا نحن نصرانيون، أو أن هذا الحزب أصدق الأحزاب لأننا له متحزبون، ثم من بعد هذا، ومن بعد هذا فقط، ننظر في الأدلة لنصرة معتقدنا، ونخرج في سهولة أو يسر تلك البراهين التي تعزز مذهبنا، وتلك الأدلة لا شك آتية، وتلك البراهين لا شك غير مستعصية وبذلك نحسب أن عملية التخريج تمت، وأن العلاقة بين السبب والمسبب استبانت، فيتأكد بذلك معتقدنا ويزيد به إيماننا، ونحن نتبع أسلوب هذا المنطق الطريف غير شاعرين ولا متيقظين اليه، ويتبعه العلماء كما يتبعه السوقة بمثل تلك الغفلة، فهو أسلوب متستر خفي، أخطر ما فيه تستره وخفاؤه.
ليس في دعاوى النازية اليوم من جديد، فهي تكملة للدعوى التي بدأت في القرن التاسع عشر، وهي مثل من أمثلة عدة لم يسلم منها قرن من القرون ولا شعب من الشعوب فالشعوب دائماً تميل للسيطرة على الشعوب بدعوى تفوق الجنس، وتستغلهم بحجة قوة الدماء وخلوصها، وتبعث فيهم حسا ًبحقارة أنفسهم لفقر وخلط في دمائهم، وخسة في أصولهم، فهي إذن دعاوى للعيش وأسباب للغلبة، أكثر منها دعاوى في العلم وقضايا في المنطق.
ليس مذهب الجرمانية إلا فرعاً من مذهب الآرية، وكان من أكبر دعاة هذا المذهب وشارحيه، الكونت (جوزف دي جوبينو كان فرنسياً أرستقراطياً مات عام ١٨٨٢ ادعى جوبينو أن الآريين خلقوا ثم أمدوا بالروح والعمر كل ما هو جميل وعظيم في الحضارة. ونسي أن يثبت وجود هؤلاء الآريين كجنس واحد نقي خالص. ان فكرة الآرية نشأت من دراسة لغات بعض الأمم الأوروبية وبعض الأمم الآسيوية، والاهتداء إلى وجود أشباه بين تلك اللغات، أدى إلى افتراض أنها جميعاً مشتقة من لغة واحدة هي الآرية، وذلك فرض علمي لا شبهة فيه. استنتج جوبينو وأشياعه من وجود لغة آرية وجود شعب آري قديم عزا إليه حضارات الأزمان الخوالي، وزعم أن هذا الجنس الآري هاجر إلى شمال أوروبا فتحدرت منه الشعوب التيوتونية والانجلو سكسونية، فهي لذلك سبب الحضارات الحالية